Header Ads

قصة "ذات أنواط" شبهة لبعض النَّاس فاستدلُّوا بها على أنَّ الجاهل لا يكفر إذا اعتقد الشرك الأكبر وعمل به







صارت قصة "ذات أنواط" شبهة لبعض النَّاس فاستدلُّوا بها على أنَّ الجاهل لا يكفر إذا اعتقد الشرك الأكبر وعمل به.وقد تبيَّن فساد قولهم،ولله الحمد والمنَّة.

غير أنَّ بعض "الموحِّدين" قد يُخطئُ فى الجمع بين الأدلّة ويقول:إمَّا أن نحكم بردَّة من يقول مثل قول أولئك الصحابة وقول أصحاب موسى عليه السلام،وإمَّا أن نقول:لايكون التكلُّمُ بالكفر موجباً للردَّة أصلا !!

فكتبتُ البيان الآتى للتصحيح والتوفيق بين الأدلَّة:

(أولاً) إنّ صحابة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يسألوه شجرةً يعبدونها،وتملكُ لهم النفع والضرَّ، لأنّهم كانوا على علمٍ بأنّ عبادة غير الله لا تجوز في الإسلام بل إنّ المشركين الوثنيين في عامة جزيرة العرب كانوا على علمٍ بأن من اتّبع محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم لا بُدّ  أن يترك عبادة غير الله وأن يخلص العبادة لله لا شريك له، وكل من سمع أنّ رجلاً بمكة يدّعي أنّ الله أرسله كان السؤال الأول الذي يسأله هو: بم يدعو إليه. أو بم أرسله الله؟ كما في حديث عمرو بن عبسة.  فكان المشركون يعلمون وهم في شركهم أنّ عبادة غير الله واتّباع محمد  لا يجتمعان أبداً.

وكان أشراف قريش يطلبون من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يكفّ عن عيب آلهتهم ولم يكونوا يطلبون منه شخصيّاً أن يعبد تلك الآلهة. وكانت الحربُ قد قامت بين الموحّدين والمشركين باللسان واليد مدّة ثلاث وعشرين سنةً، ولم تنجُ قبيلةٌ من قبائلِ العربِ من ويلاتِ هذه الحروبِ التي سببها الاختلاف في العقيدة والدِّين.

والكلّ كانوا يعلمون أنّ محمّداً صلَّى الله عليه وسلَّم وحزبه يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويصرّون على تضليل الآباء والأجداد الذين ذهبوا وهم على عبادة غير الله، ويعلمون كذلك أنّ الذين يحاربون النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وحزبه إنّما يحاربون غضباً لدينهم وتقاليدهم وآلهتهم التي كان أجدادهم يعبدونها ويُصرّون على أنّ عبادتها من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. فليس إذاً من الممكن أن يتّبع رجلٌ عاقلٌ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في تلك الفترة وفي نيته أن يستمرّ على عبادة ما كان يعبده من الآلهة الباطلة.

(ثانياً) إنّ الشرع قد جعل لبعض البقاع فضيلة خاصة لم يجعل لغيرها مثلها، فالصلاة في المساجد الثلاثة أفضل من الصلاة في غيرها من المساجد والطواف بالكعبة فضيلة وعبادة والطواف بغيرها بدعةً ومعصيةً واستلام الحجر وتقبيله كذلك.

فتخصيص الأماكن والأزمان بالفضيلة لا تكون إلاّ بشرع من الله ، وإذا ثبت عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حديثٌ يجعل لبعض الأماكن أو الأزمان فضيلة وبركة فالواجب اعتقاد ذلك، لأنّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لا يقول إلاّ بالحق، ولا يعمل إلاّ بعلم بلغه عن الله .

 أمَّا إذا سُئل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يجعل لشجرة فضيلةً وبركةً بغير إذنٍ من الله، فقد سئل أمراً لا يحلّ له ولا لهم. وحرامٌ أن يتقدّم المسلم بين يدي الله ورسوله. ولما طلب المشركون من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يأتي بقرآن غير هذا كان الجواب: ﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [يونس: 15].

 فإذا استغاث الإنسان بالميّت المقبور أو خافه أو رجاه أو ذبح له فقد وقع في الشرك الأكبر .. أما إذا عبد الله عند القبر يرجو بركة البقعة فقد وقع في الشرك الأصغر وسنّ ما يكون ذريعة إلى الشرك الأكبر، ولذلك نهى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عن اتّخاذ المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، ولعن من فعل ذلك.

قال الإمام ابن تيمية: "وهذه العلّة التي لأجلها نهى الشارع ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ  عن اتّخاذ المساجد على القبور لأنّها هي التي أوقعت كثيراً من الأُمم إمّا في الشرك الأكبر أوفيما دونه من الشرك".

 

(ثالثا) : إنّ الكفر الأكبر يكون: قولاً وعملاً واعتقاداً وشكّاً كما دلّت عليه الأدلّة من الكتاب والسنّة وإليك بعض الأمثلة:

1)إذا استهزأ المسلم بالله أو آياته أو رسوله أو استهزأ بمن يعمل بالكتاب والسُّنّة فإنّه يكفر بهذا الاستهزاء كما قال تعالى للذين استهزءوا بالقُرَّاء: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65-66].

فهذا هو الدليل الواضح في كون التكلّم بالكفر كفراً .

2)وإذا رمى المسلمُ المصحفَ في القاذورات عمداً أو قاتل نبي الله أو خرج من الصفّ المسلم في القتال ووقف مع الصف الكافر أو سجد للصنم فقد كفر بجميع هذه الأفعال، لأنّها أفعال لا تصدر إلاّ من كافرٍ عدوٍّ لله موالٍ لأعداء الله مستخف بأوامر الله .. ولا خلاف في ذلك بين علماء الإسلام. ودليل هذه المسألة هو الأدلّة الكثيرة التي دلّت على أنّ الاستهزاء بالله وآياته ورسوله والموالاة لأعداء الله وعبادة غير الله وبُغض الحقّ كفرٌ بالله مُخرجٌ عن دائرة الإسلام.

3)وإذا أظهر الإنسان الإسلام والإيمان واعتقد في الباطن الشرك والكفر يكون منافقاً زِنديقاً في الدرك الأسفل من النار .. ولا خلاف في ذلك بين علماء الإسـلام للأدلّة الكثيرة التي دلّت على ذلك.

4) ويكون الإنسان كافراً بأجماع المسلمين إذا كان شاكّاً في التوحيد أو البعث أو صدق الرسول كما كان المشركون، لأنّ إيمان المرء لا يصحّ إلاّ إذا كان عن استيقان وجزم.

 قال تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ [الدخان: 9].

 وقال: ﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾ [الجاثية:32 ].

 

(رابعاً) فإن قيل ـ بعد معرفة هذه المقدَّمات الثلاث ـ ما حقيقة مراد الصحابة الذين قالوا: "اجعل لنا ذات أنواط"وأيّ شئ طلبوه  من النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ؟

فالجواب :

إنَّني لم أقف إلا على ثلاثة أقوال من أجوبة العُلماء عن هذا السؤال:

(الأول) إنّهم سألوا أمراً محرّماً يعتبرُ شركاً أصغر، تقدّم تحريمه وعلمه الصحابة إلاّ حدثاء العهد بالإسلام، وذلك لما طلبوا أن يجعل لهم شجرةً يعكفون عندها لعبادة الله وذكره لا لعبادة الشجرة كما يفعله المشركون.

قال أبو السعادات: "سألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك. وأنواط جمع نوط وهو مصدر سُمِّي بها المنوط. ظنُّوا أنّ هذا أمرٌ محبوب عند الله وقصدوا التقرّب به، وإلاّ فهم أجلُّ قدراً من أن يقصدوا مخالفة النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ". [فتح المجيد].

قال الإمام "محمّد بن عبد الوهّاب" في المسائل من كتاب التوحيد:

الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بهذا.

الثانية عشرة: قولهم: "ونحن حدثاء عهد بكفر" فيه أنّ غيرهم لا يجهل ذلك.

(الثانى)  قال الإمام ابن تيمية:

"ولما كان للمشركين شجرةً يعلّقون عليه أسلحتهم ويسمّونها "ذات أنواط" فقال بعض الناس -ثم ذكر الحديث- قال: فأنكر النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ مُجرّد مشابهتهم الكفّار في اتّخاذ شجرة يعكفون عليها متعلّقين عليها سلاحهم، فكيف بما هو أطمّ من ذلك من مشابهتهم المشركين أو هو الشرك بعينه". [اقتضاء الصراط المستقيم:].

وسبب تشبيه النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قول الصحابة بقول بني إسرائيل هو أنّ بني إسرائيل طلبوا مشابهة المشركين في الشرك الأكبر والصحابة طلبوا مشابهتهم في الشرك الأصغر الذي يكون مآله إلى الشرك الأكبر، وليس من شرط التشبيه أن يكون المشبّه كالمشبّه به في كل شيءٍ.

فلما كان ما طلبوه يؤول إلى الشرك الأكبر غلّظ النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في الزجر عن ذلك بهذا التشبيه. كما قال للذي قال: "ما شاء الله وشئتَ". "أجعلْتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده". [النسائي وابن ماجه].

(الثالث) أنَّهم طلبوا "الشرك الأكبر" الَّذى طلبه بنو إسرائيل،وكانوا حدثاء عهد بالإسلام

وممن لم ترسخ العقيدة فى قلوبهم، فزجرهم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن ذلك وأغلظ لهم

 القول ،فتابوا وأظهروا له الإنقياد.

قال الإمام محمد بن عبد الوهاب في (كشف الشبهات) :

"ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة وهي أنّهم يقولون : إنّ بني إسرائيل لم يكفروا بذلك وكذلك الذين قالوا للنبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط لم يكفروا فالجواب أن نقول : إنّ بني إسرائيل لم يفعلوا وكذلك الذين سألوا النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لم يفعلوا.ولا خلاف أنّ بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا ، وكذلك لا خلاف أنّ الذين نهاهم النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا وهذا هو المطلوب .

قال: وتفيد أيضاً أنّ المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر -وهو لا يدرى- فنبّه على ذلك وتاب من ساعته إنّه لا يكفر كما فعل بنوا إسرائيل والذين سألوا النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ. وتفيد أيضاً أنّه لو لم يكفر فإنّه يغلّظ عليه الكلام تغليظاً شديداً كما فعل رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ "  (اهـ) .

فإن قيل :أليس من يتكلَّم بالكفر يكون مرتدّا يجب قتله ؟؟

 فالجواب: ليس كل من يتكلّم بالكفر أو يفعلُ الكفر يُقتل في الإسلام بحدّ الردّة. ومن غفل عن هذه الحقيقة فإنّه يخطئ في تفسير بعض المواقف التي قد تحتاج منه إلى تفسير ويعتسف في الجواب، فمن ذلك:

1) موقف عبد الله بن أبي ابن سلول واشتهاره بعداوة النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ، وبسبب تلك العداوة انسحب من معركة أُحد وترك النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يواجه عدواً أكثر منه عدداً وعُدّةً وذلك لحرصه على هلاك النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وهزيمته. وكذلك رميه عائشة  رضي الله عنها بالإفك. وقوله في غزوة المُريسيع: "لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ". وغير ذلك من أفعاله الخبيثة.

ثم مع موقفه ذلك كان له حكم المسلم وورثه أقرباؤه المسلمون، وطلب ابنه من النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أن يُصلِّيَ عليه لما مات.

2) الذين استهزءوا بالقُرّاء فنَزل فيهم قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾

ثم مع ذلك ظلُّوا في المسلمين، وظلّت أحكامهم أحكام المسلمين.

3) وكذلك الذين كانوا يلمزون النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في الصدقات، والذين قالوا: "هو أُذنٌ" والذي قال له: "اعدل فإنّك لم تعدل". والذين قالوا: ﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾.

فيقال في هذه المواقف: إنّ الله يحكم ما يريد ومن حكمِه: أنّ الإنسان إذا تبرّأ من الشرك والكفر الأكبر وأظهر موالاة المسلمين والبراءة من المشركين، وكان باطنه خلاف ظاهره فإنّه يُسمّى "منافقاً" ويُعامل معاملة المسلمين في النكاح والميراث إلاّ أنّه لا يُصلّى عليه إذا مات بعد أن تبيّن نفاقه .

وأولئك المنافقون منهم من تبيّن حاله وتُرك في الجماعة وحُقن دمُه حتى لا يكون قتله فتنةً للمسلمين، ومنهم من لم يتبيّن حاله ولكنّه مغموص بالنفاق، ووسيلة الإسلام لدرء أخطارهم هي الجهاد باللّسان والتعقيب على الحوادث الكائنة بسبب سعيهم اللئيم.

فالردّة عن الإسلام قسمان: ردّة ظاهرةٌ وردّة نفاقٍ.

فالمرتدّ ردّةً ظاهرةً يعتقد الكفر ويتكلّم به ويصرّ عليه ويدعو إليه جهاراً، فهذا يُستتاب فإن لم يتُب قُتل كافراً.

والمرتدّ ردّة نفاق يعتذر بالجهل أو حسن القصد مع الحلف كما جاء في القرآن:

﴿يحلفون بالله إن أردنا إلاّ إحساناً وتوفيقاً﴾ [النساء : 62] .

﴿وليحلفنّ إن أردنا إلاّ الحسنى والله يشهد إنّهم لكاذبون﴾ - [ التوبة : 107 ]

﴿يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا﴾[التوبة : 74]

﴿وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون. ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون﴾ [البقرة:11].

﴿ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن.لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ﴾ [التوبة : 65 – 66 ] .

ولا يقول: إنّ هذا طريقي ولن أترك معاداتكم. ولذلك فرّق الله بين المرتدّ والمنافق في الأحكام وإن كان الصنفان من الكفّار الخالدين في النار.

وإذا فإنَّ الأقوال على مراتب:

1ـ فمن عبَّر عن عقيدته و قال:"أنا آمنتُ باليهُودية أو الوثنية أو أنَّ هذا الصنم ينفعُ و يضرُّ".فقد كفر وارتدَّ.

2ـ ومن تكلّم بالكفر كتكلُّم المُنافقين،و يعتذرُ كاعتذاراتهم بالمزاح وحسن القصد ،عُومل مُعاملة المُنافقين.

3ـ ومن طلب الكفر وهو يزعُمُ أنَّه لا يُجاوزُ الحقَّ إذا تبيَّن، ويرجعُ بالسُؤال إلى أهل العلم،فإنَّهُ يُكتفى منه بالبيان ،ويُغلظُ لهُ بالقول..

وعلى ذلك يُمكن أن يقرّ الإنسان بالتوحيد وبصدق الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ثم يصدق في متابعة الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في جلائل الأمور ودقائقها، ثم تعرضُ له بعض الشبهات فيقع في شيء من الشرك الأكبر وهو يظنّ أنّ ذلك الشرك الذي يفعله من الإسلام، ويُريد بفعله هذا وجه الله .. كما كان المشركون أو أكثرهم كفروا وهم يحسبون أنّهم مهتدون.

قال تعالى: ﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[الأعراف:30].

فمثل هذا الإنسان يكون له حالتان:

(الأولى) إن كان قد عمل بهذا الشرك الأكبر الذي ظنّه حقّاً فقد تبيّن أنّه اعتقده وأنّه يدعو إليه لأنّ الفعل الظاهر دعوةٌ للآخرين، فيجب أن يُستتاب إذا بلغ أمره الحاكم فإن تاب وإلاّ قُتل. كما قال عمر في قصة الذين شربوا الخمر: اسألوهم أحلالٌ أم حرامٌ؟. وأفتى أنّهم إن قالوا: حلالٌ تُضرب أعناقهم، وإن قالوا: حرامٌ يُضربون الحدَّ.وكما أفتى الصديق بقتال مانعي الزكاة. وتارك التوحيد أعظم كفراً من مانع الزكاة.

(الثانية) أمّا إذا أحبّ الشرك الأكبر وهو غير واثق من نفسه .. أو شكّ في التوحيد فرجع إلى الرسول في حياته أو إلى علمه بعد مماته .. وهو يعتقد أنّ قول الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ هو القول الفصل في كل أمرٍ، وأنّه يجب الانقياد له وإن خالف الهوى .. فهذا يجب تعليمه وهدايته إلى الحقّ، وهذا ليس كمن ارتدّ ردّةً ظاهرةً. وهوـ على مرض قلبه ـ أخفّ كفراً من المنافقين الذين يُعادون الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ويحرصون على القضاء على الإسلام.

فإذا كان من عُرف نفاقُه وعداوته للرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قد حُقن دمه لإظهاره الإسلام والبراءة من الشرك وأهله، فهذا الذي طرأت عليه الشبهات ويعتقد وجوب الانقياد لقول النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أحقّ بحقن دمه وماله. بل إنّ مثل هذا الصنف يُكتفَى منهم بالبيان. فإن انقادوا تُركوا وشأنهم. وقد كان حكمهم حكم المسلمين قبل كلامهم وبعد الجواب وانقيادهم، ولم يُرتّب الشرع على هذا الشكّ الطارئ أو هذا الميل إلى الشرك أحكاماً.

 فيجب أن يكون المسلم وقَّافاً عند الكتاب، وأن لا يتعمّق فيما لا يعود عليه بنفعٍ.فما فائدة البحث عن حكم الَّذين سألوا النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلَّم أن يجعل لهم "ذات أنواط"،مع عدم وجود دليل قطعيٍّ يدلُّ على مرادهم،هل أرادوا شركا أكبر،أم أصغر، أم أرادوا مجرَّد المشابهة؟؟،إنَّ التعمُّق فى مثل ذلك لا يُفيدُ شيئاً،بل رُبما جرَّ خلافات غير محمودة  .

وكلُّ قضيَّة لايقوم على معرفتها منهج عمليٌّ ،فنحن فى غِنىً عن الخوض فيها.

فموسى ـ عليه السلام ـ لما قالوا له: (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة). اكتفى بالبيان والتعليم والتذكير، ولم يترتّب على هذا الشكّ والكفر أحكامٌ وعقوبات لقصر وقته وانقيادهم للحقّ بعد تبيُّنه ولكنّهم لما عبدوا العجل تبرّأ منهم وعاقبهم الله على فعلهم عقوبة قاسية.

وقول الإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله في "كشف الشبهات" يصدق على هذا الصنف من الناس:

 "وتفيد أيضاً أنّ المسلم المجتهد إذا تكلّم بكلام كفر - وهو لا يدرى- فنبّه ذلك وتاب من ساعته أنّه لا يكفّر".

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أنّ النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ سُئل عن الوسوسة؟ فقال: «تلك محضُ الإيمان»..أي أنّ دفع هذه الوسوسة وردّها هي "محض الإيمان" أو "صريح الإيمان". كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم.

وفي هذين الحديثين ما يدلُّ على أنّ أحاديث النفس وإن عظُمت لا تُفسد دين المسلم مادام يدفعها عن نفسه ويردّها. أما إذا استسلم لتلك الوساوس فشكّ في التوحيد أو في البعث أو في صحة حكم من أحكام الدِّين الثابتة بالنصوص القطعية، فإن دينه يكون بذلك فاسداً وعليه أن يُبادر إلى سؤال أهل العلم وطلب الدواء لقلبه، فإن لم يفعل ذلك لقي الله منافقاً شاكّاً في آيات الله  وتلك مصيبة لا تعدلها مصيبةٌ.

وأما إذا فعل الإنسان الشرك واعتقده بعد إقراره بالتوحيد وبرسالة الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فإنّ حكمه حينئذ يُؤخذ من حكم القرآن على الّذين اتّخذوا العجل من بنى إسرائيل، لأنّهم فعلوا الشرك بعد إقرارهم بالتوحيد وبرسالة موسى عليه السلام .. فلم ينفعهم الإقرار بل صاروا ظالمين مشركين.

قال تعالى: ﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [الأعراف: 148].

قال الإمام الطبري: ﴿ اتَّخَذُوهُ﴾ أي اتّخذوا العجل إلهاً ﴿ وَكَانُوا﴾ باتّخاذهم إيّاه ربّاً معبوداً ﴿ظَالِمِينَ ﴾ لأنفسهم لعبادتهم غير من له العبادة وإضافتهم الألوهية إلى غير الّذي له الألوهية  [جامع البيان: م 6/ ص: 62].

وقال القرطبي: ﴿ اتَّخَذُوهُ ﴾ أي إلهاً ﴿ وَكَانُوا ظَالِمِينَ﴾ أي لأنفسهم فيما فعلوا من اتّخاذه.

وقيل: وصاروا ظالمين أي مشركين لجعلهم العجل إلهاً .. (أ ﻫ)

وقال تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ﴾ [البقرة: 93].

فذكر الله تعالى أنّ بنى إسرائيل أشربوا في قلوبهم حبّ العجل بسبب كفرهم،فدلّ ذلك على أنّ الّذين عبدوا العجل من بنى إسرائيل كانوا كفّاراً.

قال الإمام الطبري في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ...﴾ الآية.

"وكان الفعل الّذي فعلوه فظلموا به أنفسهم هو ما أخبر الله عنهم من ارتدادهم باتّخاذهم العجل ربّاً بعد فراق موسى عليه السلام" [جامع البيان: م 1/ص: 285].

وقد كان الّذين عبدوا العجل يحبّون العجل ويظنّون أنّهم مهتدون بهذا الحبّ وهذه العبادة لجهلهم وغفلتهم العظيمة ولما علموا بالحقيقة وزالت عنهم الغفلة تابوا إلى الله واستغفروه

قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 149].

فدلّ ذلك على أنّهم لم يكونوا معاندين بل كانوا جاهلين يحسبون أنّهم مهتدون ..

وقد كانت الحجّة قائمة عليهم بإرسال موسى إليهم ودعوته إيّاهم إلى إخلاص العبادة لله وإن كانوا لم يستيقنوا التوحيد المطلوب ، إذ أنّه ليس من شروط بلوغ الحجّة أن يستيقن بها .. بل إنّه من بلغته دعوة التوحيد فأنكرها واستغربها ولم يقتنع بها وظنّ أنّها دعوة إلى الضلال .. فإنّ الحجّة قائمة عليه ولا يكون معذوراً بجهله وغفلته .. لأنّ الله تعالى أخبر أنّه طبع على قلوب كثيرين من أهل الكفر فلا يفقهون الحقّ. كقوله تعالى:-

﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام: 25].

والمشركون اليوم ممن ينتسبون إلى الإسلام قد بلغتهم دعوة التّوحيد وبلغهم القرآن الّذي يدعوا إلى التوحيد .. ولكنّهم يرفضون هذه الدعوة ولا يقتنعون بها ويحاربونها ويتمسكون بما يضادها من آراء وسلوك الأسلاف والمشايخ الضالّين .. فلا يكونون -وحالهم هذا- معذورين بالجهل .. لكون الله تعالى لم يعذر بنى إسرائيل الّذين عبدوا العجل بالجهل بل قال عزَّوجلَّ : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأعراف: 152-153]

 

 

 


ليست هناك تعليقات