الحديث: ‹‹أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله››
يستدلُّون بهذا الحديث في جدالهم عن أهل الشرك الناطقين بالشهادتين فيقعون في أخطاء فاحشة سأذكرها بإيجاز:
(الأول): يتجاهلون ما قيل عن آية التوبة التي يفسِّرها الحديث. فقوله صلّى الله عليه وسلّم: ‹‹أُمرتُ›› يشير إلى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ أو ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ فشرطت الآية شروطاً ثلاثة للكفّ عن المشرك:
1) التوبة من الشرك وإنكار الرسالة.
2) إقامة الصلاة .
3) إيتاء الزكاة .
ولم يأت الحديث بشروط زائدة عمّا ذُكر في الآية وإنّما فسّر الآية مجرّد تفسير. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ‹‹حتى يقولوا لا إله إلاّ الله›› معناه حتى يتوبوا من الشرك، لأنّ كلمة التوحيد وُضعت للبراءة والخروج من الشرك والدخول في الإسـلام والإخلاص.
وإليك ما قيل في تفسير الآية:
قال أنس رضي الله عنه: "توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربِهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة" [ابن جرير].
وقال قتادة: "إن تركوا اللات والعزى وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإخوانكم في الدِّين" [ابن جري].
وقال الإمام الطبري ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ يقول: "فإن رجعوا عما نهاهم عنه من الشرك بالله، وجحود نبوة نبيه محمدصلّى الله عليه وسلّم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، والإقرار بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم . [جامع البيان].
وقال القرطبي: ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ أي عن الشرك والتزموا أحكام الإسلام. [الجامع لأحكام القرآن].
وقال ابن كثير: ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ أي عما أنتم فيه من الشرك والضلال. [تفسير القرآن العظيم].
فيُقال لأهل الإرجاء: هل الآية والحديث متّفقان في المعنى المراد أم مختلفان ومتعارضان ؟
فإن قالوا: متّفقان. فقد حصل المطلوب وتبيّن أن لا وزن لشهادة المصرّ على الشرك حتى يعلن التوبة منه.
وإن قالوا: مختلفان ومتعارضان. يُقال لهم: إذا اختلفت الأدلّة وتعذّر الجمع فالعمل بالأثبت هو المتعيّن، والآية أقوى من الحديث من حيث الثبوت وإفادة العلم.
(الثاني): يتجاهلون الأدلّة الأخرى التي دلّت على أن إسلام المرء لا يتمُّ وهو يشرك بالله ويعبد غيره كقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].
وقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾
والحديث: ››بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ. عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللهُ وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ ...‹‹. [متفق عليه].
والحديث: ‹‹من قال لا إله إلاّ الله وكفر بما يُعبد من دون الله حرُم ماله ودمه وحسابه على الله››. [مسلم].
والحديث: ‹‹الإسـلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً››. [متّفق عليه].
(الثالث): يتجاهلون أن الكفّار أصناف وأنّ منهم من يقول كلمة التوحيد في الكفر ومن لا يقولها إلاّ إذا أراد الإسلام. وأنّ علماء الإسلام فرّقوا بين هذه الأصناف ولم يقولوا أنّهم سواء في قبول كلمة التوحيد "لا إله إلاّ الله" منهم.
فقد ذكر الشافعيّ رحمه الله في (الأمّ) أن أهل الكتاب لا يُقبل إسلامهم حتى يقولوا "محمّد رسول الله". وذكر أنّ من أهل الكتاب من يقول في كفره "لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله" ويقصد رسول الله إلى العرب خاصة، وأنّ أولئك لا يُقبلُ إسلامهم حتى يقولوا "إلى جميع الخلق".
قال الإمام البغويّ: "الكافر إذا كان وثنيا أو ثنويا لا يقرّ بالوحدانية فإذا قال: "لا إله إلا الله" حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام.
وأما من كان مقرا بالوحدانية منكرا للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول "محمد رسول الله". وإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة، فلابد أن يقول: "إلى جميع الخلق". فإن كان كفره بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج أن يرجع عما اعتقده.اﻫ" [فتح الباري: 12/279].
(الرابع): يتجاهلون أقوال العلماء شُرَّاح الحديث ‹‹أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله››. فإنّهم بيّنوا أنّ الحديث خاصٌ بالوثنيين الذين كانوا يأبون في كفرهم قولَ "لا إله إلاّ الله" لاعتقادهم بالآلهة المعبودة من دون الله :
قال أبو سليمان الخطابي في قوله: ‹‹أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله›› "معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون "لا إله إلا الله" ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف". [شرح مسلم: 1/206].
وقال القاضي عياض: "اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال "لا إله إلا الله"تعبير عن الإجابة إلى الإيمان. وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمه بقول "لا إله إلا الله" إذا كان يقولها في كفره" ا ﻫ. [شرح مسلم: 1/206].
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لحديث أبى هريرة: "وفيه منع قتل من قال "لا إله إلا الله" ولم يزد عليها وهو كذلك، ولكن هل يصير بمجرد ذلك مسلما؟. الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر. فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام، حكم بإسلامه. وإلى ذلك الإشارة بقوله "إلا بحق الإسلام " ا ﻫ. [فتح الباري: 12/279].
(الخامس): يتجاهلون أنّ كلمة التوحيد لها حقوق لا بُدّ من أدائها وإلاّ صارت كلمة جوفاء تُقال باللسان كذباً، وأنّ أول حقوقها إخلاص العبادة والطاعة لله، والعمل بالكتاب والسنة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من الواجبات والابتعاد عن المحرّمات التي نهى الله عنها، يدلّ على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: ‹‹إلاّ بحقّها››.
ولذلك لما تحرّج الصحابة عن قتال مانعي الزكاة الناطقين بكلمة التوحيد أقنعهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه بوجوب قتالهم لتركهم حقوقها، واستدلّ بقوله صلّى الله عليه وسلّم: ‹‹إلاّ بحقّها››.
قال محمد بن إسماعيل الصنعاني: في (تطهير الاعتقاد) بعد أن بيَّن أن القبوريين الذين يعبدون الأولياء قد سلكوا مسلك المشركين. فإن قلتَ: لا سواء لأنّ هؤلاء قد قالوا "لا إله إلا الله" وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: {أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا "لا إله إلا الله" فإذا قالوها عصموا منِّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها}.
قلتُ: قد قال صلّى الله عليه وسلّم "إلا بحقِّها" وحقُّها إفراد الألوهية والعبودية لله تعالى، والقبوريون لم يفردوا هذه العبادة، فلم تنفعهم كلمة الشهادة، فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها. اﻫ
ليست هناك تعليقات