عقيده القرطبي الاشعري صاحب التفسير
عقيده القرطبي الاشعري صاحب التفسير
11- قال: "باب ذكر جمل من فضائل القرآن، والترغيب فيه، وفضل طالبه، وقارئه، ومستمعه،
والعامل به: اعلم أن هذا الباب واسع كبير، ألف فيه العلماء كتباً كثيرة، نذكر من ذلك نكتاً تدل على فضله، وما أعده الله لأهله إذا أخلصوا الطلب لوجهه. وعملوا به. فأول ذلك: أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن، أنه كلام رب العالمين غير مخلوق،
كلام من ليس كمثله شيء، وصفة من ليس له شبيه ولا ند، فهو من نور ذاته جل وعز، وأن القراءة أصوات القراء ونغماتهم، وهي أكسابهم التي يؤمرون بها في حال، إيجاباً في بعض العبادات، وندباً في كثير من الأوقات، ويزجرون عنها إذا أجنبوا، ويثابون عليها ويعاقبون على تركها. وهذا مما أجمع عليه المسلمون أهل الحق، ونطقت به الآثار، ودل عليها المستفيض من الأخبار، ويتعلق الثواب والعقاب إلا بما هو من اكتساب العباد، على ما يأتي بيانه"اهـ
22- وقال: "فثبت بهذا: أن كلامه سبحانه ليس بحرف ولا يشبه الحروف. والكلام في هذه المسألة يطول، وتتميمها في كتب الأصول، وقد بيناها في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى)"اهـ
33- وقال: "ذهب أهل الحق فيما نقل القاضي أبو بكر بن الطيب، إلى أن الاسم هو المسمى، وارتضاه ابن فورك، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه. فإذا قال قائل: الله عالم. فقوله دال على الذات الموصوفة بكونه عالماً، فالاسم كونه عالماً وهو المسمى بعينه. وكذلك إذا قال: الله خالق. فالخالق هو الرب، وهو بعينه الاسم. فالاسم عندهم هو المسمى بعينه من غير تفصيل"اهـ
44- وقال: "}وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ{، مثله، يريد: من خير، وشر. وفي هذا دليل على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك، إن كان خيراً فبفضله، وإن كان شراً فبعدله، وهذا مذهب أهل السنة، والآي في القرآن بهذا المعنى كثيرة. فالعبد مكتسب لأفعاله، على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل، يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرعشة مثلا، وذلك التمكن هو مناط التكليف"اهـ
55- وقال: "قوله تعالى: }وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ{،
يقال: ما عامل الإعراب في الظرف (من) في السماوات وفي الأرض؟ ففيه أجوبة: أحدها: أي وهو الله المعظم أو المعبود في السموات وفي الأرض، كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب. أي: حكمه. ويجوز أن يكون المعنى: وهو الله المنفرد بالتدبير في السموات وفي الأرض، كما تقول: هو في حاجات الناس، وفي الصلاة. ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر، ويكون المعنى: وهو الله في السموات، وهو الله في الأرض. وقيل: المعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، فلا يخفى عليه شيء. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه .. والقاعدة: تنزيهه عز وجل، عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة"اهـ
66- وقال: "وقول الله تعالى وخطابه للملائكة، متقرر قديم في الأزل، بشرط وجودهم وفهمهم. وهكذا الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته. وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وهو الذي ارتضاه أبو المعالي. وقد أتينا عليه في كتاب (الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفات الله العلى)"اهـ
77- وقال: "قوله تعالى: }ثُمَّ اسْتَوى{، }ثُمَّ{ لترتيب الإخبار، لا لترتيب الأمر في نفسه. والاستواء في اللغة: الارتفاع والعلو على الشيء، قال الله تعالى: }فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ{، وقال: }لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ{، وقال الشاعر: فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى. أي: ارتفع وعلا. واستوت الشمس على رأسي، واستوت الطير على قمة رأسي، بمعنى علا.
وهذه الآية من المشكلات، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه، قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، وذهب إليه كثير من الأئمة، وهذا كما روي عن مالك رحمه الله، أن رجلاً سأله عن قوله تعالى: }الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى{، قال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سوء، أخرجوه.
وقال بعضهم: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة. وهذا قول المشبهة. وقال بعضهم: نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها. وقال الفراء في قوله عز وجل: }ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ{ قال: الاستواء في كلام العرب على وجهين،
أحدهما: أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته، أو يستوي عن اعوجاج. فهذان وجهان. ووجه ثالث أن تقول: كان فلان مقبلاً على فلان، ثم استوى علي وإلي يشاتمني. على معنى: أقبل إلي، وعلي. فهذا معنى قوله: }ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ{، والله أعلم. قال: وقد قال ابن عباس: ثم استوى إلى السماء، صعد. وهذا كقولك: كان قاعداً فاستوى قائماً، وكان قائماً فاستوى قاعداً، وكل ذلك في كلام العرب جائز. وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين: قوله: }اسْتَوى{ بمعنى أقبل، صحيح، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء، والقصد هو الإرادة، وذلك جائز في صفات الله تعالى. ولفظة }ثُمَّ{ تتعلق بالخلق، لا بالإرادة. وأما ما حكي عن ابن عباس، فإنما أخذه عن تفسير الكلبي، والكلبي ضعيف.
وقال سفيان بن عيينة وابن كيسان في قوله: }ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ{، قصد إليها، أي: بخلقه واختراعه. فهذا قول. وقيل: }عَلَى{ دون تكييف، ولا تحديد، واختاره الطبري. ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية، أنه يقال: }اسْتَوى{ بمعنى أنه ارتفع. قال البيهقي: ومراده من ذلك - والله أعلم - ارتفاع أمره، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء. وقيل: إن المستوي الدخان. وقال ابن عطية: وهذا يأباه وصف الكلام. وقيل: المعنى استولى، كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق. قال ابن عطية: وهذا إنما يجئ في قوله تعالى: }الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى{. قلت: قد تقدم في قول الفراء: علي وإلي، بمعنى. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة الأعراف، إن شاء الله تعالى. والقاعدة في هذه الآية ونحوها، منع الحركة والنقلة"اهـ
88- وقال: "قوله تعالى: }اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ{، أي: ينتقم منهم، ويعاقبهم، ويسخر بهم، ويجازيهم على استهزائهم، فسمى العقوبة باسم الذنب. هذا قول الجمهور من العلماء.
والعرب تستعمل ذلك كثيراً في كلامهم، من ذلك قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا. فسمى انتصاره جهلاً، والجهل لا يفتخر به ذو عقل، وإنما قال ليزدوج الكلام، فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. وكانت العرب إذا وضعوا لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاء،
ذكروه بمثل لفظه، وإن كان مخالفاً له في معناه، وعلى ذلك جاء القرآن والسنة. وقال الله عز وجل: }وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها{، وقال: }فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ{، والجزاء لا يكون سيئة، والقصاص لا يكون اعتداء، لأنه حق وجب. ومثله }وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ{، و}إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً{، و}إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ{، وليس منه سبحانه، مكر، ولا هزء، ولا كيد، إنما هو جزاء لمكرهم، واستهزائهم، وجزاء كيدهم، وكذلك} يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ{، }فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ{"اهـ
99- وقال: "قوله تعالى: }وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ{، قيل: كان هنا بمعنى صار، ومنه قوله تعالى: }فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ{، وقال الشاعر: بتيهاء قفر والمطي كأنها ... قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها. أي: صارت. وقال ابن فورك: كان هنا بمعنى صار، خطأ ترده الأصول. وقال جمهور المتأولين: المعنى: أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة، هو الذي قد علم الله منه الموافاة. قلت: وهذا صحيح، لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: (وإنما الأعمال بالخواتيم)"اهـ
100- وقال: "وأصل الاستحياء: الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق. المعنى: لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمتنع من ذكره"اهـ
111- وقال: "وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يضرب عبده، فقال: (اتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته). أي: على صورة المضروب، أي: وجه هذا المضروب يشبه وجه آدم، فينبغي أن يحترم لشبهه. وهذا أحسن ما قيل في تأويله، والله أعلم"اهـ
12- وقال: "}وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ{، أي: أسمعه كلامه من غير واسطة"اهـ
133- وقال: "}بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ{، ابتداء كلام مستأنف، أي: إلى السماء. والله تعالى متعال عن المكان"اهـ
144- وقال: "واختلف الناس بماذا عرف موسى كلام الله ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه، فمنهم من قال: إنه سمع كلاماً ليس بحروف وأصوات، وليس فيه تقطيع ولا نفس، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر، وإنما هو كلام رب العالمين. وقال آخرون: إنه لما سمع كلاماً لا من جهة - وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست -
علم أنه ليس من كلام البشر. وقيل: إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام، فعلم أنه كلام الله. وقيل فيه: إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله، وذلك أنه قيل له: ألق عصاك. فألقاها فصارت ثعباناً، فكان ذلك علامة على صدق الحال، وأن الذي يقول له: }إِنِّي أَنَا رَبُّكَ{. هو الله عز وجل. وقيل: إنه قد كان أضمر في نفسه شيئاً، لا يقف عليه إلا علام الغيوب، فأخبره الله تعالى في خطابه بذلك الضمير، فعلم أن الذي يخاطبه هو الله جل وعز"اهـ
155- وقال: "}هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ{ .. وفي قراءة عبد الله: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام. قال قتادة: الملائكة. يعني تأتيهم لقبض أرواحهم، ويقال: يوم القيامة. وهو أظهر. قال أبو العالية والربيع: تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتيهم الله فيما شاء.
وقال الزجاج: التقدير في ظلل من الغمام، ومن الملائكة. وقيل: ليس الكلام على ظاهره في حقه سبحانه، وإنما المعنى: يأتيهم أمر الله، وحكمه. وقيل: أي: بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل، مثل: }فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا{، أي: بخذلانه إياهم. هذا قول الزجاج. والأول قول الأخفش سعيد. وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان، راجعاً إلى الجزاء، فسمى الجزاء: إتياناً، كما سمى التخويف والتعذيب في قصة نمرود: إتياناً، فقال: }فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِم{، وقال في قصة النضير: }فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ{، وقال: }وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها{. وإنما احتمل الإتيان هذه المعاني، لأن أصل الإتيان عند أهل اللغة، هو القصد إلى الشيء، فمعنى الآية:
هل ينظرون إلا أن يظهر الله تعالى فعلاً من الأفعال مع خلق من خلقه، يقصد إلى مجازاتهم ويقضي في أمرهم ما هو قاض، وكما أنه سبحانه أحدث فعلاً سماه نزولاً واستواء، كذلك يحدث فعلاً يسميه إتياناً، وأفعاله بلا آلة، ولا علة، سبحانه. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: هذا من المكتوم الذي لا يفسر. وقد سكت بعضهم عن تأويلها، وتأولها بعضهم كما ذكرنا. وقيل: الفاء بمعنى الباء، أي يأتيهم بظلل، ومنه الحديث: (يأتيهم الله في صورة). أي: بصورة، امتحاناً لهم. ولا يجوز أن يحمل هذا وما أشبهه مما جاء في القرآن والخبر، على وجه الانتقال والحركة والزوال، لأن ذلك من صفات الأجرام والأجسام، تعالى الله الكبير المتعال، ذو الجلال والإكرام عن مماثلة الأجسام علواً كبيراً"اهـ
166- وقال: "وقيل: إتيان الله تعالى: مجيئه لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة، كما قال تعالى: }وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا{. وليس مجيئه تعالى حركة ولا انتقالاً ولا زوالاً، لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسماً أو جوهراً. والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة، أنهم يقولون: يجيء وينزل ويأتي. ولا يكيفون، }لأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"{اهـ
177- وقال: "اختلف الناس في تأويل الوجه المضاف إلى الله تعالى في القرآن والسنة، فقال الحذاق: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز الكلام، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدراً. وقال ابن فورك: قد تذكر صفة الشيء، والمراد بها الموصوف توسعاً، كما يقول القائل: رأيت علم فلان اليوم، ونظرت إلى علمه،
وإنما يريد بذلك: رأيت العالم، ونظرت إلى العالم، كذلك إذا ذكر الوجه هنا، والمراد: من له الوجه، أي الوجود. وعلى هذا يتأول قوله تعالى: }إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ{، لأن المراد به: لله الذي له الوجه، وكذلك قوله: }إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى{، أي: الذي له الوجه. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه عز وجل، كما قال: }وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ{. وقال بعض الأئمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى. قال ابن عطية: وضعف أبو المعالي هذا القول، وهو كذلك ضعيف، وإنما المراد وجوده. وقيل: المراد بالوجه هنا الجهة التي وجهنا إليها أي القبلة. وقيل: الوجه القصد، كما قال الشاعر: أستغفر الله ذنباً لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل. وقيل: المعنى: فثم رضا الله، وثوابه، كما قال: }إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ{، أي: لرضائه وطلب ثوابه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (من بنى مسجداً يبتغي به وجه لله بنى الله له مثله في الجنة).
وقوله: (يجاء يوم القيامة بصحف مختومة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول عز وجل لملائكته: ألقوا هذا، واقبلوا هذا. فتقول الملائكة: وعزتك يا ربنا ما رأينا إلا خيراً. وهو أعلم، فيقول: إن هذا كان لغير وجهي ولا أقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهي). أي: خالصاً لي، خرجه الدارقطني. وقيل: المراد فثم الله، والوجه صلة، وهو كقوله: }وَهُوَ مَعَكُمْ{. قاله الكلبي والقتبي، ونحوه قول المعتزلة"اهـ
18- وقال: "}بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ{، تقدم معنى: غضب الله عليهم، وهو عقابه"اهـ
199- وقال: }هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ{، أي: عند الموت لقبض أرواحهم. }أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ{، قال ابن عباس والضحاك: أمر ربك فيهم بالقتل أو غيره. وقد يذكر المضاف إليه، والمراد به المضاف، كقول تعال: }وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ{، يعني: أهل القرية. وقوله: }وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ{، أي: حب العجل. كذلك هنا: يأتي أمر ربك، أي: عقوبة ربك وعذاب ربك. ويقال: هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله"اهـ
200- وقال: "و}الْعَلِيُّ{، يراد به علو القدر والمنزلة، لا علو المكان، لأن الله منزه عن التحيز. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه ألا يحكى"اهـ
211- وقال: "قوله تعالى: }إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ{، الدين في هذه الآية الطاعة والملة، والإسلام بمعنى الإيمان والطاعات. قاله أبو العالية، وعليه جمهور المتكلمين. والأصل في مسمى الايمان والإسلام التغاير، لحديث جبريل، وقد يكون بمعنى المرادفة. فيسمى كل واحد منهما باسم الآخر، كما في حديث وفد عبد القيس: وأنه أمرهم بالإيمان بالله وحده،
وقال: (هل تدرون ما الإيمان)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمساً من المغنم) الحديث. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون باباً فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله) أخرجه الترمذي. وزاد مسلم (والحياء شعبة من الإيمان). ويكون أيضاً بمعنى التداخل، وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماه في الأصل، ومسمى الآخر، كما في هذه الآية، إذ قد دخل فيها التصديق والأعمال، ومنه قول عليه السلام: (الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان). أخرجه ابن ماجه، وقد تقدم. والحقيقة هو الأول وضعاً، وشرعاً، وما عداه من باب التوسع، والله أعلم"اهـ
222- وقال: "قوله تعالى: }فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ{،قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه: متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلباً للتشكيك في القرآن وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن، أو طلباً لاعتقاد ظواهر المتشابه،
كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن الباري تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع، تعالى الله عن ذلك، أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها، أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال. فهذه أربعة أقسام: الأول: لا شك في كفرهم، وأن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة. الثاني: الصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور، ويستتابون فإن تابوا، وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد. الثالث: اختلفوا في جواز ذلك بناء على الخلاف في جواز تأويلها، وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها، فيقولون: أمروها كما جاءت. وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها. الرابع: الحكم فيه الأدب البليغ، كما فعله عمر بصبيغ"اهـ
وقد ذكره بحروفه في (التذكار) أيضاً، لكن دون أن ينسبه لشيخه صاحب المفهم.
233- وقال: "قال ابن عرفة: المحبة عند العرب: إرادة الشيء على قصد له. وقال الأزهري: محبة العبد لله ورسوله، طاعته لهما، واتباعه أمرهما، قال الله تعالى: }قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي{، ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران، قال الله تعالى: }فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ{"اهـ
244- وقال: "أصح من هذا، ما روى الأئمة عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر). في رواية: (حتى ينفجر الصبح) لفظ مسلم. وقد اختلف في تأويله، وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسراً عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما،
قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر منادياً فيقول هل من داع يستجاب له هل من مستغفر يغفر له هل من سائل يعطى). صححه أبو محمد عبدالحق، وهو يرفع الإشكال، ويوضح كل احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي: ينزل ملك ربنا فيقول. وقد روي (ينزل) بضم الياء، وهو يبين ما ذكرنا، وبالله توفيقنا. وقد أتينا على ذكره في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى)"اهـ
255- وقال: "وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول، ثم يأمر منادياً يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟ صححه أبو محمد عبدالحق. فبين هذا الحديث مع صحته، معنى النزول"اهـ
266- وقال: "قوله تعالى: }وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ{، القهر، الغلبة، والقاهر، الغالب، وأقهر الرجل إذا صير بحال المقهور الذليل، قال الشاعر: تمنى حصين أن يسود جذاعه ... فأمسى حصين قد أذل وأقهرا. وقهر غلب. ومعنى }فَوْقَ عِبَادِهِ{، فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، أي هم تحت تسخيره، لا فوقية مكان، كما تقول: السلطان فوق رعيته. أي: بالمنزلة، والرفعة"اهـ
277- وقال: "قوله تعالى: }وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ{، يعني: فوقية المكانة والرتبة، لا فوقية المكان والجهة، على ما تقدم بيانه أول السورة"اهـ
288- وقال: "قوله تعالى: }وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ{، المس والكشف من صفات الأجسام، وهو هنا مجاز، وتوسع"اهـ
299- وقال: "اليد في كلام العرب تكون للجارحة، كقوله تعالى: }وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً{. هذا محال على الله تعالى. وتكون للنعمة، تقول العرب: كم يد لي عند فلان. أي: كم من نعمة لي قد أسديتها له، وتكون للقوة، قال الله عز وجل: }وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ{، أي: ذا القوة. وتكون يد الملك والقدرة، قال الله تعالى: }قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ{، وتكون بمعنى الصلة، قال الله تعالى: }مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً{، أي: مما عملنا نحن. وقال: }أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ{، أي: الذي له عقدة النكاح.
وتكون بمعنى التأييد والنصرة، ومن قوله عليه السلام: (يد الله مع القاضي حتى يقضي والقاسم حتى يقسم). وتكون لإضافة الفعل إلى المخبر عنده، تشريفاً له وتكريماً، قال الله تعالى: }يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ{، فلا يجوز أن يحمل على الجارحة، لأن الباري جل وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض، ولا على القوة والملك والنعمة والصلة، لأن الاشتراك يقع حينئذ بين وليه آدم، وعدوه إبليس، ويبطل ما ذكر من تفضيله عليه لبطلان معنى التخصيص، فلم يبق إلا أن تحمل على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفاً له دون خلق إبليس، تعلق القدرة بالمقدور، لا من طريق المباشرة، ولا من حيث المماسة، ومثله ما روي أنه عز اسمه وتعالى علاه وجد أنه كتب التوراة بيده، وغرس دار الكرامة بيده لأهل الجنة، وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها"اهـ
300- وقال: "قوله تعالى: }بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ{، ابتداء وخبر، أي: بل نعمته مبسوطة، فاليد بمعنى النعمة. قال بعضهم: هذا غلط، لقوله: }بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ{، فنعم الله تعالى أكثر من أن تحصى، فكيف تكون: بل نعمتاه مبسوطتان؟ وأجيب: بأنه يجوز أن يكون هذا تثنية جنس، لا تثنية واحد مفرد، فيكون مثل قوله عليه السلام: (مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين). فأحد الجنسين نعمة الدنيا، والثاني نعمة الآخرة. وقيل: نعمتا الدنيا النعمة الظاهرة، والنعمة الباطنة، كما قال: }وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً{. وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال فيه: (النعمة الظاهرة ما حسن من خلقك والباطنة ما ستر عليك من سيء عملك). وقيل: نعمتاه المطر والنبات اللتان النعمة بهما ومنهما. وقيل: إن النعمة للمبالغة، كقول العرب: (لبيك وسعديك).
وليس يريد الاقتصار على مرتين، وقد يقول القائل: ما لي بهذا الامر يد، أو قوة. قال السدي: معنى قوله: }يَداهُ{، قوتاه بالثواب والعقاب، بخلاف ما قالت اليهود: إن يده مقبوضة عن عذابهم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى قال لي: أنفق أنفق عليك). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى لا يغيضها سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق مذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه - قال - وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض). السح: الصب الكثير. ويغيض: ينقص، ونظير هذا الحديث، قوله جل ذكره: }وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ{. وأما هذه الآية: ففي قراءة ابن مسعود: بل يداه بسطان. حكاه الأخفش، وقال يقال: يد بسطة. أي: منطلقة منبسطة. }يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ{، أي: يرزق كما يريد. ويجوز أن تكون اليد في هذه الآية، بمعنى القدرة، أي: قدرته شاملة، فإن شاء وسع، وإن شاء قتر"اهـ
311- وقال: "قوله تعالى: }وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ{، عبارة عن الغضب عليهم، وإزالة الرضا عنهم، يقال: فلان لا يكلم فلاناً، إذا غضب عليه. وقال الطبري: المعنى: }وَلا يُكَلِّمُهُمُ{ بما يحبونه. وفي التنزيل: }اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ{. وقيل: المعنى: ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية"اهـ
322- وقال: "}فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ{، أي: لا يرضى فعلهم، ولا يغفر لهم، كما تقدم"اهـ
333- وقال: "وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر). وإنما خص هؤلاء بأليم العذاب وشدة العقوبة، لمحض المعاندة، والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي، إذ لم يحملهم على ذلك حاجة، ولا دعتهم إليه ضرورة كما تدعو من لم يكن مثلهم. ومعنى (لا ينظر إليهم) لا يرحمهم، ولا يعطف عليهم"اهـ
344- وقال: "قوله تعالى: }ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ{. هذه مسألة الاستواء، وللعلماء فيها كلام، وأجزاء. وقد بينا أقوال العلماء فيها في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى)، وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولاً. والأكثر من المتقدمين والمتأخرين، أنه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتحيز، فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم من المتأخرين، تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم، لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة، أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز، الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث. هذا قول المتكلمين. وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء،
فإنه لا تعلم حقيقته. قالت أم سلمة رضي الله عنها. وهذا القدر كاف، ومن أراد زيادة عليه، فليقف عليه في موضعه من كتب العلماء. والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار. قال الجوهري: واستوى من اعوجاج، واستوى على ظهر دابته، أي استقر.
واستوى إلى السماء أي قصد. واستوى أي استولى وظهر. قال: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق. واستوى الرجل أي انتهى شبابه. واستوى الشيء إذا اعتدل. وحكى أبو عمر بن عبدالبر عن أبي عبيدة في قوله تعالى: }الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى{. قال: علا. وقال الشاعر: فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى. أي علا وارتفع. قلت: فعلو الله تعالى وارتفاعه، عبارة عن علو مجده وصفاته وملكوته. أي ليس فوقه فيما يجب له من معاني الجلال أحد، ولا معه من يكون العلو مشتركاً بينه وبينه، لكنه العلي بالإطلاق سبحانه"اهـ
355- وقال: "وقد تقدم القول في معنى الاستواء، في الأعراف. والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وغيره، أنه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف، كما يكون استواء المخلوقين"اهـ
366- وقال: "وقوله: }أَسْمَعُ وَأَرَى{، عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية، تبارك الله رب العالمين"اهـ
377- وقال: "}فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسَى{، فأنظر إليه نظر مشرف عليه. توهم أنه جسم تحويه الأماكن. وكان فرعون يدعي الألوهية، ويرى تحقيقها بالجلوس في مكان مشرف"اهـ
388- وقال: "ومعنى }يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ{، أي: عقاب ربهم، وعذابه، لأن العذاب المهلك إنما ينزل من السماء. وقيل: المعنى: يخافون قدرة ربهم التي هي فوق قدرتهم. ففي الكلام حذف. وقيل: معنى }يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ{، يعني: الملائكة، يخافون ربهم، وهي من فوق ما في الأرض من دابة، ومع ذلك يخافون، فلأن يخاف من دونهم أولى"اه
ـ
399- وقال: "وقال المحققون: }أَمِنْتُمْ مَنْ فَوْق السَّمَاءِ{، كقوله: }فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ{، أي فوقها، لا بالمماسة والتحيز، لكن بالقهر والتدبير. وقيل: معناه أمنتم من على السماء، كقوله تعالى: }وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ{، أي عليها. ومعناه: أنه مديرها، ومالكها، كما يقال: فلان على العراق والحجاز. أي واليها وأميرها. والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة، مشيرة إلى العلو، لا يدفعها إلا ملحد، أو جاهل معاند. والمراد بها: توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت. ووصفه بالعلو والعظمة،
لا بالأماكن والجهات والحدود، لأنها صفات الأجسام، وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء، لأن السماء مهبط الوحي، ومنزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته، كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة، وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له، ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان"اهـ
400- وقال: "وفي صحيح مسلم: (لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه - في رواية - فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل) الحديث. وروي (إن الصدقة لتقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله والله يضاعف لمن يشاء). قال علماؤنا رحمة الله عليهم في تأويل هذه الأحاديث: إن هذا كناية عن القبول والجزاء عليها، كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض تعطفاً عليه بقوله: (يا بن آدم مرضت فلم تعدني) الحديث. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة. وخص اليمين والكف بالذكر، إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه، أو يوضع له فيه، فخرج على ما يعرفونه،
والله عز وجل منزه عن الجارحة. وقد جاءت اليمين في كلام العرب بغير معنى الجارحة، كما قال الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين. أي هو مؤهل للمجد والشرف، ولم يرد بها يمين الجارحة، لأن المجد معنى، فاليمين التي تتلقى به رايته معنى. وكذلك اليمين في حق الله تعالى. وقد قيل: إن معنى (تربو في كف الرحمن) عبارة عن كفة الميزان التي توزن فيها الأعمال، فيكون من باب حذف المضاف، كأنه قال. فتربو كفة ميزان الرحمن. وروي عن مالك والثوري وابن المبارك أنهم قالوا في تأويل هذه الأحاديث وما شابهها: أمروها بلا كيف. قال الترمذي، وغيره: وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة"اهـ
411- وقال: "وفي هذا دلالة على أن اكتسابات الخلق مفعولة لله تعالى، كما يقوله أهل الحق، وهو القول الحق لأن الرب في هذا الموضع لا يمكن حمله على معنى من معانيه إلا على المالك، وإذا ثبت أنه مالك ما بين السماء والأرض، دخل في ذلك اكتساب الخلق، ووجبت عبادته لما ثبت أنه المالك على الإطلاق"اهـ
422- وقال: "قال ابن فورك: معنى قوله: (إن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس). أي: أظهر وأسمع وأفهم كلامه، من أراد من خلقه من الملائكة في ذلك الوقت. والعرب تقول: قرأت الشيء. إذا تتبعته. وتقول: ما قرأت هذه الناقة في رحمها سلا قط. أي ما ظهر فيها ولد. فعلى هذا يكون الكلام سائغاً، وقراءته أسماعه وأفهامه بعبارات يخلقها،
وكتابة يحدثها، وهي معنى قولنا: قرأنا كلام الله، ومعنى قوله: }فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ{، }فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ{. ومن أصحابنا من قال معنى قوله: (قرأ). أي: تكلم به. وذلك مجاز، كقولهم: ذقت هذا القول ذواقاً، بمعنى اختبرته. ومنه قول تعالى: }فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ{، أي: ابتلاهم الله تعالى به، فسمي ذلك ذواقاً، والخوف لا يذاق على الحقيقة، لأن الذوق في الحقيقة بالفم دون غيره من الجوارح. قال ابن فورك: وما قلناه أولاً، أصح في تأويل هذا الخبر، لأن كلام الله تعالى أزلي قديم سابق لجملة الحوادث، وإنما أسمع وأفهم من أراد من خلقه على ما أراد في الأوقات والأزمنة، لا أن عين كلامه يتعلق وجوده بمدة وزمان"اهـ
433- وقال: "قال ابن عباس: }لِكَلِماتِ رَبِّي{، أي: مواعظ ربي. وقيل: عنى بالكلمات، الكلام القديم الذي لا غاية له، ولا منتهى، وهو وإن كان واحداً، فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من فرائد الكلمات، ولأنه ينوب منا بها، فجازت العبارة عنها بصيغة الجمع تفخيماً"اهـ
444- وقال: "قال المهدوي: وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه، وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء. ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالانتقال والزوال وشبه ذلك من صفات المخلوقين. قال أبو المعالي: وأهل المعاني وأهل الحق
يقولون: من كلمه الله تعالى وخصه بالرتبة العليا والغاية القصوى، فيدرك كلامه القديم المتقدس عن مشابهة الحروف والأصوات والعبارات والنغمات وضروب اللغات، كما أن من خصه الله بمنازل الكرامات وأكمل عليه نعمته، ورزقه رؤيته يرى الله سبحانه منزهاً عن مماثلة الأجسام وأحكام الحوادث، ولا مثل له سبحانه في ذاته وصفاته، وأجمعت الأمة على أن الرب تعالى خصص موسى عليه السلام وغيره من المصطفين من الملائكة بكلامه. قال الأستاذ أبو إسحاق: اتفق أهل الحق على أن الله تعالى خلق في موسى عليه السلام معنى من المعاني أدرك به كلامه كان اختصاصه في سماعه، وأنه قادر على مثله في جميع خلقه.
واختلفوا في نبينا عليه السلام هل سمع ليلة الإسراء كلام الله، وهل سمع جبريل كلامه على قولين، وطريق أحدهما النقل المقطوع به وذلك مفقود، واتفقوا على أن سماع الخلق له عند قراءة القرآن على معنى أنهم سمعوا العبارة التي عرفوا بها معناه دون سماعه له في عينه. وقال عبدالله بن سعيد بن كلاب: إن موسى عليه السلام فهم كلام الله القديم من أصوات مخلوقة أثبتها الله تعالى في بعض الأجسام. قال أبو المعالي: وهذا مردود، بل يجب اختصاص موسى عليه السلام بإدراك كلام الله تعالى خرقاً للعادة، ولو لم يقل ذلك، لم يكن لموسى عليه السلام اختصاص بتكليم الله إياه.
والرب تعالى أسمعه كلامه العزيز، وخلق له علماً ضرورياً، حتى علم أن ما سمعه كلام الله، وأن الذي كلمه وناداه، هو الله رب العالمين"اهـ
455- وقال: "ثم قال: }تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ{، أي: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك. وقيل: المعنى تعلم ما أعلم، ولا أعلم ما تعلم. وقيل: تعلم ما أخفيه، ولا أعلم ما تخفيه. وقيل: تعلم ما أريد، ولا أعلم ما تريد. وقيل: تعلم سري، ولا أعلم سرك، لأن السر موضعه النفس. وقيل: تعلم ما كان مني في دار الدنيا، ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة. قلت: والمعنى في هذه الأقوال متقارب، أي تعلم سري وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته، ولا أعلم شيئاً مما استأثرت به من غيبك وعلمك"اهـ
466- وقال: "ولهذا فرطت المجبرة لما رأوا أن هدايتهم إلى الايمان مقرونة بمشيئة الله تعالى، فقالوا: الخلق مجبورون في طاعتهم كلها. التفاتاً إلى قوله: }وَما تَشاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ{. وفرطت القدرية لما رأوا أن هدايتهم إلى الايمان مقرونة بمشيئة العباد، فقالوا: الخلق خالقون لأفعالهم. التفاتاً منهم إلى قوله تعالى: }لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ{. ومذهبنا: هو الاقتصاد في الاعتقاد، وهو مذهب بين مذهبي المجبرة والقدرية، وخير الأمور أوساطها. وذلك أن أهل الحق
قالوا: نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه، وبين ما اخترناه، وهو أنا ندرك تفرقة بين حركة الارتعاش الواقعة في يد الإنسان بغير محاولته وإرادته ولا مقرونة بقدرته، وبين حركة الاختيار إذا حرك يده حركة مماثلة لحركة الارتعاش، ومن لا يفرق بين الحركتين: حركة الارتعاش وحركة الاختيار، وهما موجودتان في ذاته ومحسوستان في يده بمشاهدته وإدراك حاسته، فهو معتوه في عقله، ومختل في حسه، وخارج من حزب العقلاء. وهذا هو الحق المبين، وهو طريق بين طريقي الافراط، والتفريط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وبهذا الاعتبار: اختار أهل النظر من العلماء، أن سموا هذه المنزلة بين المنزلتين: كسباً، وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله العزيز، وهو قوله سبحانه: }لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ{"اهـ
477- وقال: "قوله تعالى: }اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ{، الآية. النور في كلام العرب: الأضواء المدركة بالبصر. واستعمل مجازاً فيما صح من المعاني ولاح، فيقال منه: كلام له نور. ومنه: الكتاب المنير، ومنه قول الشاعر: نسب كأن عليه من شمس الضحا ... نوراً ومن فلق الصباح عمودا. والناس يقولون: فلان نور البلد، وشمس العصر وقمره. وقال: فإنك شمس والملوك كواكب. وقال آخر: هلا خصصت من البلاد بمقصد ... قمر القبائل خالد بن يزيد. وقال آخر: إذا سار عبدالله من مرو ليلة ... فقد سار منها نورها وجمالها. فيجوز أن يقال: لله تعالى نور من جهة المدح، لأنه أوجد الأشياء، ونور جميع الأشياء، منه ابتداؤها، وعنه صدورها،
وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة، جل وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وقد قال هشام الجواليقي وطائفة من المجسمة: هو نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام. وهذا كله محال على الله تعالى عقلاً ونقلاً، على ما يعرف في موضعه من علم الكلام. ثم إن قولهم متناقض، فإن قولهم: جسم أو نور. حكم عليه بحقيقة ذلك، وقولهم: لا كالأنوار ولا كالأجسام. نفي لما أثبتوه من الجسمية والنور، وذلك متناقض، وتحقيقه في علم الكلام. والذي أوقعهم في ذلك، ظواهر اتبعوها منها هذه الآية، وقول عليه السلام إذا قام من الليل يتهجد: (اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض). وقال عليه السلام، وقد سئل: هل رأيت ربك؟ فقال: (رأيت نوراً).
إلى غير ذلك من الأحاديث. واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: المعنى: أي به وبقدرته أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها، وقامت مصنوعاتها. فالكلام على التقريب للذهن، كما يقال: الملك نور أهل البلد، أي به قوام أمرها، وصلاح جملتها، لجريان أموره على سنن السداد. فهو في الملك، مجاز، وهو في صفة الله، حقيقة محضة، إذ هو الذي أبدع الموجودات، وخلق العقل نوراً هادياً،
لأن ظهور الموجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات، تبارك وتعالى لا رب غيره. قال معناه: مجاهد والزهري وغيرهما. قال ابن عرفة: أي منور السموات والأرض. وكذا قال الضحاك والقرظي. كما يقولون: فلان غياثنا، أي مغيثنا.
وفلان زادي، أي مزودي. قال جرير: وأنت لنا نور وغيث وعصمة ... ونبت لمن يرجو نداك وريق. أي: ذو ورق. وقال مجاهد: مدبر الأمور في السموات والأرض. وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية: مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقال ابن عباس وأنس: المعنى: الله هادي أهل السموات والأرض. والأول أعم للمعاني، وأصح مع التأويل. أي: صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن، والدلائل تسمى نوراً، وقد سمى الله تعالى كتابه نوراً، فقال: }وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً{، وسمى نبيه نوراً، فقال: }قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ{. وهذا لأن الكتاب يهدي، ويبين، وكذلك الرسول. ووجه الإضافة إلى الله تعالى، أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها. وتحتمل الآية معنى آخر، ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به، بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة، وذلك أن يريد مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة، كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة، التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس، فمثل نور الله في الوضوح، كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر"اهـ
488- وقال: "قال العلماء: في قوله تعالى: }حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ{، دليل على أن كلام الله عز وجل مسموع عند قراءة القارئ، قاله الشيخ أبو الحسن والقاضي أبو بكر وأبو العباس القلانسي وابن مجاهد وأبو إسحاق الإسفرايني وغيرهم، لقوله تعالى: }حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ{، فنص على أن كلامه مسموع عند قراءة القارئ لكلامه. ويدل عليه إجماع المسلمين، على أن القارئ إذا قرأ فاتحة الكتاب أو سورة، قالوا: سمعنا كلام الله. وفرقوا بين أن يقرأ كلام الله تعالى، وبين أن يقرأ شعر امرئ القيس. وقد مضى في سورة البقرة، معنى كلام الله تعالى، وأنه ليس بحرف، ولا صوت، والحمد لله"اهـ
499- وقال: "قوله تعالى: }بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ{، قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، بفتح التاء خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: بل عجبت مما نزل عليك من القرآن، وهم يسخرون به. وهي قراءة شريح، وأنكر قراءة الضم، وقال: إن الله لا يعجب من شيء، وإنما يعجب من لا يعلم. وقيل: المعنى: بل عجبت من إنكارهم للبعث. وقرأ الكوفيون إلا عاصماً بضم التاء. واختارها أبو عبيد والفراء، وهي مروية عن علي وابن مسعود، رواه شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ: }بَلْ عَجِبْتَ{، بضم التاء. ويروى عن ابن عباس. قال الفراء في قوله سبحانه: }
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ{، قرأها الناس بنصب التاء ورفعها، والرفع أحب إلي، لأنها عن علي وعبدالله وابن عباس. وقال أبو زكريا الفراء: العجب إن أسند إلى الله عز وجل، فليس معناه من الله كمعناه من العباد، وكذلك قوله: }اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ{، ليس ذلك من الله كمعناه من العباد. وفي هذا بيان الكسر لقول شريح، حيث أنكر القراءة بها. روى جرير والأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة،
قال: قرأها عبدالله يعني ابن مسعود: }بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ{، قال شريح: إن الله لا يعجب من شيء، إنما يعجب من لا يعلم. قال الأعمش: فذكرته لإبراهيم، فقال: إن شريحاً كان يعجبه رأيه، إن عبدالله كان أعلم من شريح، وكان يقرؤها عبدالله }بَلْ عَجِبْتَ{. قال الهروي: وقال بعض الأئمة: معنى قوله: }بَلْ عَجِبْتَ{، بل جازيتهم على عجبهم، لأن الله تعالى أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الحق، فقال: }وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ{، وقال: }إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ{، }أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ{، فقال تعالى: }بَلْ عَجِبْتَ{، بل جازيتهم على التعجب. قلت: وهذا تمام معنى قول الفراء، واختاره البيهقي. وقال علي بن سليمان: معنى القراءتين واحد، والتقدير: قل يا محمد: بل عجبت. لأن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بالقرآن.
وقال النحاس: وهذا قول حسن، وإضمار القول كثير. قال البيهقي: والأول أصح. وقال المهدوي: ويجوز أن يكون إخبار الله عن نفسه بالعجب محمولاً على أنه أظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين، كما يحمل إخباره تعالى عن نفسه بالضحك لمن يرضى عنه، على ما جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه أظهر له من رضاه عنه ما يقوم له مقام الضحك من المخلوقين مجازاً واتساعاً. قال الهروي: ويقال: معنى (عجب ربكم): أي رضي وأثاب، فسماه عجباً، وليس بعجب في الحقيقة، كما قال تعالى: }وَيَمْكُرُ اللَّهُ{. معناه: ويجازيهم الله على مكرهم، ومثله في الحديث (عجب ربكم من إلكم وقنوطكم). وقد يكون العجب بمعنى وقوع ذلك العمل عند الله عظيماً، فيكون معنى قوله: }بَلْ عَجِبْتَ{، أي: بل عظم فعلهم عندي.
قال البيهقي: ويشبه أن يكون هذا، معنى حديث عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عجب ربك من شاب ليست له صبوة). وكذلك ما خرجه البخاري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل). قال البيهقي: وقد يكون هذا الحديث، وما ورد من أمثاله، أنه يعجب ملائكته من كرمه ورأفته بعباده، حين حملهم على الإيمان به بالقتال، والأسر في السلاسل، حتى إذا آمنوا أدخلهم الجنة. وقيل: معنى }بَلْ عَجِبْتَ{، بل أنكرت. حكاه النقاش. وقال الحسين بن الفضل: التعجب من الله، إنكار الشيء وتعظيمه، وهو لغة العرب. وقد جاء في الخبر: (عجب ربكم من إلكم وقنوطكم)"اهـ
500- وقال: "قوله تعالى: }قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ{، أي: صرفك وصدك }أَنْ تَسْجُدَ{، أي: عن أن تسجد }لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ{، أضاف خلقه إلى نفسه تكريماً له، وإن كان خالق كل شيء، وهذا كما أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد. فخاطب الناس بما يعرفونه في تعاملهم، فإن الرئيس من المخلوقين لا يباشر شيئاً بيده إلا على سبيل الإعظام والتكرم، فذكر اليد هنا بمعنى هذا. قال مجاهد: اليد ها هنا بمعنى التأكيد والصلة، مجازه لما خلقت أنا، كقوله: }وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ{، أي: يبقى ربك. وقيل: التشبيه في اليد في خلق الله تعالى، دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة، وإنما هما صفتان من صفات ذاته تعالى. وقيل: أراد باليد القدرة، يقال: مالي بهذا الأمر يد. وما لي بالحمل الثقيل يدان. ويدل عليه أن الخلق لا يقع إلا بالقدرة بالإجماع"اهـ
511- وقال: "قوله تعالى: "}وَجاءَ رَبُّكَ{، أي: أمره، وقضاؤه. قاله الحسن، وهو من باب حذف المضاف. وقيل: أي جاءهم الرب بالآيات العظيمة، وهو كقوله تعالى: }إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ{. أي بظلل. وقيل: جعل مجيء الآيات مجيئاً له، تفخيما لشأن تلك الآيات. ومنه قوله تعالى في الحديث: (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستسقيتك فلم تسقني واستطعمتك فلم تطعمني). وقيل: }وَجاءَ رَبُّكَ{. أي: زالت الشبه ذلك اليوم، وصارت المعارف ضرورية، كما تزول الشبه والشك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه. قال أهل الإشارة: ظهرت قدرته واستولت، والله جل ثناؤه لا يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنى له التحول والانتقال، ولا مكان له، ولا أوان، ولا يجري عليه وقت، ولا زمان، لأن في جريان الوقت على الشيء فوت الأوقات، ومن فاته شيء، فهو عاجز"اهـ
522- وقال: "}يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ{، قيل: يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء، ويده في المنة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة. وقال الكلبي: معناه: نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة. وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم"اهـ
533- وقال: "القول الثالث: ما حكاه الطبري عن فرقة، منها مجاهد، أنها قالت: المقام المحمود هو أن يجلس الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه، وروت في ذلك حديثاً. وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول،
وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى، وفيه بعد. ولا ينكر مع ذلك أن يروى، والعلم يتأوله. وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا، من أنكر جوازه على تأويله. قال أبو عمر: ومجاهد وإن كان أحد الأئمة، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم، أحدهما هذا، والثاني في تأويل قوله تعالى: }وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ{، قال: تنتظر الثواب، ليس من النظر. قلت.
ذكر هذا في باب ابن شهاب في حديث التنزيل. وروي عن مجاهد أيضاً في هذه الآية، قال: يجلسه على العرش. وهذا تأويل غير مستحيل، لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء كلها والعرش قائماً بذاته، ثم خلق الأشياء من غير حاجة إليها، بل إظهاراً لقدرته وحكمته، وليعرف وجوده وتوحيده وكمال قدرته وعلمه بكل أفعاله المحكمة، وخلق لنفسه عرشاً استوى عليه كما شاء من غير أن صار له مماساً، أو كان العرش له مكاناً. قيل: هو الآن على الصفة التي كان عليها من قبل أن يخلق المكان والزمان، فعلى هذا القول، سواء في الجواز أقعد محمد على العرش أو على الأرض، لأن استواء الله تعالى على العرش، ليس بمعنى الانتقال والزوال وتحويل الأحوال من القيام والقعود والحال التي تشغل العرش، بل هو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كيف. وليس إقعاده محمداً على العرش موجباً له صفة الربوبية أو مخرجاً له عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله، وتشريف له على خلقه"اهـ
544- وقال: "وقال ابن عباس: الوجه عبارة عنه، كما قال: }وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ{. وقال أبو المعالي: وأما الوجه، فالمراد به عند معظم أئمتنا: وجود الباري تعالى، وهو الذي ارتضاه شيخنا. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: }وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ{. والموصوف بالبقاء عند تعرض الخلق للفناء، وجود الباري تعالى. وقد مضى في البقرة، القول في هذا عند قوله تعالى: }فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ{، وقد ذكرناه في (الكتاب الأسنى) مستوفى. قال القشيري: قال قوم: هو صفة زائدة على الذات لا تكيف، يحصل بها الإقبال على من أراد الرب تخصيصه بالإكرام. والصحيح أن يقال: وجهه وجوده وذاته، يقال: هذا وجه الأمر، ووجه الصواب، وعين الصواب. وقيل: أي يبقى الظاهر بأدلته كظهور الإنسان بوجهه. وقيل: وتبقى الجهة التي يتقرب بها إلى الله"اهـ
555- وقال: "الذي عليه أهل السنة: أن الله سبحانه قدر الأشياء، أي: علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب، ومحاولة، ونسبة، وإضافة"اهـ
566- وقال: " أمره صلى الله عليه وسلم أن يستقوا من بئر الناقة، دليل على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وإن تقادمت أعصارهم ،وخفيت آثارهم"اهـ
577- وقال: "}تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ{، أي: تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم. وقرأ ابن مسعود وأصحابه، والسلمي، والكسائي: (يعرج) بالياء على إرادة الجمع، ولقوله: ذكروا الملائكة، ولا تؤنثوهم. وقرأ الباقون بالتاء على إرادة الجماعة. والروح جبريل عليه السلام، قاله ابن عباس. دليله قوله تعالى: }نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ{. وقيل: هو ملك آخر عظيم الخلقة. وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس، وليس بالناس. قال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين يقبض. }إِلَيْهِ{، أي: إلى المكان الذي هو محلهم، وهو في السماء، لأنها محل بره، وكرامته. وقيل: هو كقول إبراهيم: }إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي{، أي: إلى الموضع الذي أمرني به. وقيل: }إِلَيْهِ{، أي: إلى عرشه"اهـ
588- وقال: "قال ابن العربي:
ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً. وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: (إن الله خلق آدم على صورته). يعني: على صفاته التي قدمنا ذكرها. وفي رواية (على صورة الرحمن). ومن أين تكون للرحمن صورة متشخصة؟ فلم يبق إلا أن تكون معاني"اهـ
599- وقال في كتابه (الأسنى): "وأظهر هذه الأقوال - وإن كنت لا أقول به، ولا أختاره - ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، أن الله سبحانه على عرشه، كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه، بلا كيف، بائن من جميع خلقه. هذا جملة مذهب السلف الصالح، فيما نقل عنهم الثقات حسب ما تقدم"اهـ
600- وقال: "قال أبو عمر رحمه الله: قال نعيم بن حماد: ينزل بذاته وهو على كرسيه. وهذا ليس بشيء عند أهل العلم من أهل السنة، لأن هذه كيفية، وهم يفزعون منها، لأنها لا تصلح إلا فيما يحاط به عياناً، وقد جل الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً. واحتج - أي ابن عبدالبر - بأن الله تعالى فوق عرشه من غير تحديد ولا مماسة ولا تكييف، بآيات وأخبار احتج بها قبله الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتاب الموجز، قال بعدها: وقد زعمت المعتزلة بأن الله في كل شيء، فلزمها قول النصارى وأكثر. وأخذ بردها على المعتزلة، ثم ذكر قولين في معنى: استوى على العرش، أحدهما: إن قال قائل: فما الاستواء عندكم؟ قلنا: هو فعل كان به مستوياً على عرشه. ثم ذكر قولاً ثانياً، ثم قال أبو الحسن: وجوابي على الأول، وهو أن الله سبحانه مستو على عرشه، وأنه فوق الأشياء وأنه بائن منه، بمعنى: أنه لا تحل ولا يحلها ولا يماسها. وقال أبو الحسن في آخر الفصل بعد كلام كثير مع المعتزلة وعلى الآيات: ومما يدل على أن الله فوق الأشياء،
وأنه مستو على عرشه كما أخبر في كتابه عن نفسه، أن المسلمين يشيرون بالدعاء إلى السماء وإلى جهة العلو ولا يشيرون إلى جهة الأرض، وهذا إجماع منهم. قلت: هذا كلام الشيخ أبي الحسن، وهو الذي نقله أبو عمر، واحتج به غير واحد من العلماء، أن الله فوق عرشه، كما ذكرنا، وإنما حملني على ذكر هذا، لأن كثيراً من الأصوليين وجهلة المتفقهين، يتأول على أبي عمر، أنه حشوي قاعد، ومجسم ظاهر، حتى أن بعض أشياخي أخبرني عمن لقيه، أنه كان يقول: ينبغي أن تقطع تلك الأوراق من كتبه، أو تطمس. وهذا كلام فيه تحامل، لا يصدر مثله إلا عن تجاهل بما قالته قبله العلماء،
وسطرته في كتبه الأئمة الفضلاء، وإنما كان عليه أن يبين ويوضح ويعلم، وهذا الترمذي أبو عيسى، قد ذكر في كتابه عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وعبدالله بن المبارك، أنهم قالوا في هذه الأحاديث - يريد أحاديث الصفات -: أقروها بلا كيف. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. وقال الخطابي في شعار الدين: وقد جرت عادة المسلمين وعامتهم، بأن يدعو ربهم عند الابتهال والرغبة إليه، ويرفعوا أيديهم إلى السماء، وذلك لاستفاضة العلم عندهم بأن المدعو سبحانه في السماء. قلت: لما كانت السماء محلاً كريماً ومكاناً شريفاً وهو موضع التفضيل والتقدير ومهبط الوحي والتنزيل، كان التوجه بالدعاء إليها، كالصلاء إلى القبلة، والله أعلم. وأما الآيات والأخبار الواردة في معنى الفوقية والعلو، فمتأولة على ما يأتي ذكرها في تضاعيف الأسماء"اهـ
611- وقال في (التذكرة): "فصل: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب». للعلماء فيه تأويلات: أحسنها وأجملها، ما ذكره القاضي أبو بكر ابن العربي، قال: أخبرني غير واحد من أصحابنا عن إمام الحرمين أبي المعالي عبدالملك بن عبدالله بن يوسف الجويني، أنه سئل: هل الباري في جهة؟ فقال: لا، هو متعال عن ذلك. قيل له: ما الدليل عليه؟ قال: الدليل عليه، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى». فقيل له: ما وجه الدليل من هذا الخبر؟ فقال: لا أقوله حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار، يقضي بها ديناً. فقام رجلان، فقالا: هي علينا. فقال: لا يتبع بها اثنين،
لأنه يشق عليه. فقال واحد: هي علي. فقال: إن يونس بن متى رمى بنفسه في البحر، فالتقمه الحوت، وصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث، ونادى {لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، كما أخبر الله، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم حين جلس على الرفرف الأخضر، وارتقى به صعداً حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام، وناجاه ربه بما ناجاه به، وأوحى إليه ما أوحى، بأقرب إلى الله من يونس في ظلمة البحر"اهـ
قلت: وذكرها أيضاً بنحو هذا السياق عند تفسيره لسورة الصافات، وكذلك عند تفسيره لسورة الأنبياء، وسورة الحديد، فقال: (وقال أبو المعالي: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على يونس بن متى). المعنى: فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت). ثم قال: وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة، والأعراف.
622- وقال: "فصل: في بيان ما أشكل من الحديث من ذكر اليد والأصابع: إن قال قائل: ما تأويل اليد عندكم، واليد حقيقتها في الجارحة المعلومة عندنا. وتلك التي يكون القبض والطي بها؟ قلنا: لفظ الشمال أشد في الإشكال، وذلك في الإطلاق على الله محال.
والجواب: أن اليد في كلام العرب لها خمسة معان: تكون بمعنى القوة .. وتكون بمعنى الملك والقوة .. وتكون بمعنى النعمة .. وتكون بمعنى الصلة .. وتكون بمعنى الجارحة .. وقوله في الحديث (بيده) عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته، يقال: ما فلان إلا في قبضتي. بمعنى: ما فلان إلا في قدرتي. والناس يقولون: الأشياء في قبضة الله. يريدون في ملكه وقدرته. وقد يكون معنى القبض والطي: إفناء الشيء وإذهابه، فقوله عز وجل: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} يحتمل أن يكون المراد به: الأرض جميعاً ذاهبة فانية يوم القيامة. وقوله: {وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ليس يريد به طياً بعلاج وانتصاب، وإنما المراد بذلك: الفناء والذهاب ..
فإن قيل: فقد قال في الحديث: «ويقبض أصابعه ويبسطها» وهذه حقيقة الجارحة؟ قلنا: هذا مذهب المجسمة من اليهود والحشوية. والله تعالى متعال عن ذلك، وإنما المعنى: حكاية الصاحب عن النبي صلى الله عليه وسلم: يقبض أصابعه ويبسطها. وليس معنى اليد في الصفات بمعنى الجارحة، حتى يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع، فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يقبض أصابعه ويبسطها. قال الخطابي: وذكر الأصابع لم يوجد في شيء من الكتاب والسنة المقطوع بصحتهما. فإن قيل: فقد ورد ذكر الأصابع في غير ما حديث، فما جوابكم عنه؟ فقد روى البخاري ومسلم، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أهل الكتاب
فقال: يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، والخلائق على أصبع؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فأنزل الله عز وجل {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}. وروى عن عبدالله بن عمرو، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها حيث يشاء). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك). ومثله كثير. قيل له: اعلم أن الأصابع قد تكون بمعنى الجارحة، والله تعالى يتقدس عن ذلك، وتكون بمعنى القدرة على الشيء ويسارة تقليبه، كما تقول لمن استسهل شيئاً واستخفه مخاطباً لمن استثقله:
أنا أحمله على أصبعي، وارفعه علي بأصبعي، وأمسكه بخنصري. وكما يقال من أطاع بحمل شيء: أنا أحمله على عيني، وأفعله على رأسي. يعني به الطواعية، وما أشبه ذلك .. فلما كانت السموات والأرض أعظم الموجودات قدراً وأكبرها خلقاً، كان إمساكها بالنسبة إلى الله تعالى كالشيء الحقير الذي نجعله نحن بين أصابعنا ونهزه بأيدينا، ونتصرف فيه كيف شئنا، فتكون الإشارة بقوله: «ثم يقبض أصابعه ويبسطها»، وبقوله: «ثم يهزهن» كما جاء في بعض طرق مسلم وغيره. أي: هي في قدرته كالحبة مثلاً في كف أحدنا التي لا نبالي بإمساكها، ولا بهزها، ولا تحريكها، ولا القبض والبسط عليها، ولا نجد في ذلك صعوبة ولا مشقة. وقد يكون الأصبع أيضاً في كلام العرب بمعنى النعمة، وهو المراد بقوله عليه السلام: «إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن». أي:
بين نعمتين من نعم الرحمن. يقال: لفلان علي أصبع. أي: أثر حسن، إذا أنعم عليه نعمة حسنة. وللراعي على ماشيته أصبع. أي: أثر حسن"اهـ
633- وقال: "وقيل: يكشف عن ساق جهنم، وقيل: عن ساق العرش. فأما ما روي أن الله تعالى يكشف عن ساقه يوم القيامة، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة كما في صحيح البخاري، فإنه تعالى على التبعيض والأعضاء، وأن ينكشف ويتغطى، ومعناه: أي يكشف على العظيم من أمره"اهـ
644- وقال: "وقوله: (حتى يضع فيها قدمه)، وفي رواية أخرى: (حتى يضع عليها)، وفي أخرى: (رجله) ولم يذكر (فيها) ولا (عليها)، فمعناه: عبارة عمن تأخر دخوله في النار من أهلها، وهم جماعات كثيرة، لأن أهل النار يلقون فيها فوجاً فوجاً، كما قال الله تعالى: {كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}. ويؤيده أيضاً، قوله في الحديث: لا يزال يلقى فيها.
فالخزنة تنظر أولئك المتأخرين إذ قد علموهم بأسمائهم وأوصافهم، كما روي عن ابن مسعود، أنه قال: ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف باسمه وصفته، فإذا استوفى كل واحد ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد، قالت الخزنة: قط قط. أي: حسبنا حسبنا، اكتفينا اكتفينا، وحينئذ تنزوي جهنم على ما من فيها وتنطبق، إذ لم يبق أحد ينتظر، فعبر عن ذلك الجمع المنتظر، بالرجل، والقدم، لا أن الله جسم من الأجسام، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. والعرب تعبر عن الجماعة والجراد بالرجل، فتقول جاءنا رجل من جراد، ورجل من الناس، أي جماعة منهم.
والجمع: أرجل. ويشهد لهذا التأويل، قوله في نفس الحديث: (ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقاً فيسكنهم فصل الجنة) وفي الحديث تأويلات أتينا عليها في الأسماء والصفات، أشبهها ما ذكرناه. وفي التنزيل {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، قال ابن عباس: المعنى منزل صدق. وقال الطبري: معنى {قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، عمل صالح. وقيل: هو السابقة الحسنة، فدل على أن القدم ليس حقيقة في الجارحة، والله الموفق. قال ابن فورك: وقال بعضهم: القدم خلق من خلق الله يخلقه يوم القيامة فيسميه قدماً، ويضيفه إليه من طريق الفعل، يضعه في النار فتمتلئ النار منه، والله أعلم"اهـ
655- وقال: "فصل: قوله في الحديث: (فيناديهم بصوت). استدل به من قال بالحرف والصوت، وأن الله يتكلم بذلك، تعالى الله عما يقوله المجسمون والجاحدون علواً كبيراً، وإنما يحمل النداء المضاف إلى الله تعالى، على نداء بعض الملائكة المقربين بإذن الله تعالى وأمره، ومثل ذلك سائغ في الكلام غير مستنكر أن يقول القائل: نادى الأمير، وبلغني نداء الأمير، كما قال تعالى: {وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ}، وإنما المراد: نادى المنادي عن أمره، وأصدر نداءه عن إذنه، وهو كقولهم أيضاً: قتل الأمير فلاناً، وضرب فلاناً.
وليس المراد توليه لهذه الأفعال، وتصديه لهذه الأعمال، ولكن المقصود صدورها عن أمره. وقد ورد في صحيح الأحاديث أن الملائكة ينادون على رؤوس الأشهاد فيخاطبون أهل التقى والرشاد: ألا إن فلان ابن فلان. كما تقدم. ومثله ما جاء في حديث التنزيل مفسراً فيما أخرجه النسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر منادياً يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟) صححه أبو محمد عبدالحق. وكل حديث اشتمل على ذكر الصوت أو النداء، فهذا التأويل فيه،
وأن ذلك من باب حذف المضاف. والدليل على ذلك: ما ثبت من قدم كلام الله تعالى على ما هو مذكور في كتاب الديانات. فإن قال بعض الأغبياء: لا وجه لحمل الحديث على ما ذكرتموه، فإن فيه (أنا الديان). وليس يصدر هذا الكلام حقاً وصدقاً إلا من رب العالمين. قيل له: إن الملك إذا كان يقول عن الله تعالى وينبئ عنه، فالحكم يرجع إلى الله رب العالمين، والدليل عليه: أن الواحد منا إذا تلا قول الله تعالى: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ}، فليس يرجع إلى القارئ، وإنما القارئ ذاكر لكلام الله تعالى، ودال عليه بأصواته، وهذا بين، وقد أتينا عليه في الصفات من كتاب (الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العليا)"اهـ
666- وقال: "قوله: (قد أشرف عليهم). أي: اطلع. كما يقال: فلان مشرف عليك. أي: مطلع عليك من مكان عال، والله تعالى لا يوصف بالمكان من جهة الحلول والتمكن، وإنما يوصف من جهة العلو والرفعة، فعبر عن اطلاعه عليهم، ونظره إليهم، بالإشراف، ولما كان سبحانه قائلاً متكلماً، وكان الكلام له صفة في ذاته، ولم يزل ولا يزال، فهو يسلم عليهم سلاماً هو قوله منه"اهـ
677- وقال: "وأما قوله في الحديث: (حتى ينتهي إلى السماء التي فيها الله تعالى). فالمعنى: أمر الله وحكمه، وهي السماء السابعة التي عندها سدرة المنتهى التي إليها يصعد ما يعرج به من الأرض، ومنها يهبط ما ينزل به منها"اهـ
688- وقال: "وقوله: (فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون). هذا موضع الامتحان ليميز المحق من المبطل، وذلك أنه لما بقي المنافقون والمراؤون متلبسين بالمؤمنين والمخلصين، زاعمين أنهم منهم، وأنهم عملوا مثل أعمالهم، وعرفوا الله مثل معرفتهم، امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة، قالت للجميع: أنا ربكم. فأجاب المؤمنون بإنكار ذلك، والتعوذ منه، لما قد سبق لهم من معرفتهم بالله عز وجل في دار الدنيا، وأنه منزه عن صفات هذه الصور، إذ سماتها سمات المحدثين.
ولهذا قال في حديث أبي سعيد الخدري: (فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً مرتين أو ثلاثاً حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب). قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر في كتاب المفهم لشرح اختصار كتاب مسلم: وهذا لمن لم يكن له رسوخ العلماء، ولعلهم الذين اعتقدوا الحق وجزموا عليه من غير بصيرة، ولذلك كان اعتقادهم قابلاً للانقلاب"اهـ
699- وقال: "وفي فناء الجنة والنار عند فناء جميع الخلق قولان: أحدهما: يفنيهما ولا يبقى شيء سواه، وهو معنى قوله الحق: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ}. وقيل: إنه مما لا يجوز عليهما الفناء، وإنهما باقيان بإبقاء الله سبحانه. والله أعلم"اهـ
700- وقال في (التذكار): "يستحيل على الله أن يكون في السماء أو في الأرض، إذ لو كان في شيء لكان محصوراً أو محدوداً، ولو كان ذلك لكان محدثاً، وهذا مذهب أهل الحق والتحقيق. وعلى هذه القاعدة قوله تعالى: }أَمِنْتُمْ مَنْ فَوْق السَّمَاءِ{، وقوله عليه السلام للجارية: (أين الله؟) قالت في السماء. فلم ينكر عليها. وما كان مثله ليس على ظاهره، بل مؤول تأويلات صحيحة،
قد أبداها كثير من أهل العلم في كتبهم، وقد بسطنا القول في هذا بكتاب (الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى) عند قوله تعالى: }الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى{"اهـ
711- وقال: "وكلام الله القديم الذي هو صفته، لا نصف له ولا ربع ولا خمس ولا سبع ولا هو ألوف ولا مئون ولا آحاد، وإنما هو صفة واحدة لا ينقسم ولا يتجزأ، وهذا مما يدل على أن التلاوة غير المتلو، والقراءة غير المقروء،
فإن القراءة عند أهل الحق، أصوات القراء ونغماتهم، وهي اكتسابهم التي يؤمرون بها في حال، إيجاباً في بعض العبادات، وندباً في كثير من الأوقات ويزجرون عنها إذا أجنبوا أو يثابون عليها ويعاقبون على تركها. وهذا مما اجتمع عليه المسلمون ونطقت به الآثار، ودل عليه المستفيض من الأخبار، ولا يتعلق الثواب والعقاب إلا بما هو من اكتساب العباد،
ويستحيل ارتباط التكييف والترغيب والتضعيف بصفة أزلية خارجة عن الممكنات وقبيل المقدورات، والقراءة هي التي تستطاب من قارئ، وتستبشع من آخر، وهي الملحونة والقويمة والمستقيمة، وتنزه عن كل ما ذكرنا الصفة القديمة، ولا يخطر لمن لازم الإنصاف أن الأصوات التي يبح بها حلقه، وتنتفخ على مستقر العادة بها أوداجه، وتقع على الإيثار والاختيار محرفاً وقويماً وجهورياً رخيماً، ليس كلاماً لله تعالى إذ هي مخلوقة مبتدعة، والمفهوم منها كلام الله القديم الأزلي الذي تدل عليه العبارات، وليس منها،
وهو غير حال في القارئ، ولا موجود فيه. وسبيل القراءة والمقروء والتلاوة والمتلو، كسبيل الذكر والمذكور، فالذكر يرجع إلى قول الذاكر، والرب المذكور المسبح الممجد، غير الذكر والتسبيح والتمجيد. قال المؤلف رضي الله عنه: هذا ما ذكره في هذا الباب علماؤنا رحمة الله عليهم، وقد زدناه بياناً في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى)"اهـ
ليست هناك تعليقات