ابن تيمية لا يكفّر مُنكر علوّ الله و لا من قال بخلق القرآن
ابن تيمية لا يكفّر مُنكر علوّ الله و لا من قال بخلق القرآن .
اعلم أنّ قواعد ابن تيمية واضحة و معلومة في باب التكفير :
1 - فهو يفرّق بين المسائل الظاهرة و الخفية ، و مسألة العلوّ من الأمور الظاهرة و المعلومة و المجمع عليها بين الملل فضلا عن سلف الأمّة .
2 - مُكنة طلب العلم ، فمن فرّط لا يعذر .
3 - من وقع في الكفر لا يقع الكفر عليه، هذه عنده في المسائل الخفيّة .
بعد هذا التقعيد ، ننظر في بعض أقوال ابن تيمة :
قال ابن تيمية : (إنّالمتجهد في مثل هذا - يعني: إنكار علوّ الله - من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحقّ ، فإنّ الله يغفر له خطأه وإن حصل منه نوع تقصير، فهو ذنب لا يجب أن يبلغ الكفر، وإن كان يُطلق القول بأنّ هذا الكلام كفر كما أطلق السّلف الكفر على من قال ببعض مقالات الجهميّة، مثل القول بخلق القرآن أو إنكار الرّؤية أو نحو ذلك ممّا هو دون إنكار علوّ الله على الخلق، وأنّه فوق العرش، فإنّ تكفير صاحب هذه المقالة كان عندهم من أظهر الأمور، فإنّ التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق، لا يستلزم تكفير الشّخص المعيَّن حتى تقوم عليه الحجّة التي تكفِّر تاركها)[الاستقامة 1 / 163].
وقال - أيضا -: ( والتحقيق في هذا: أنّ القول قد يكون كفراً، كمقالات الجهميّة الذين قالوا: إنّ الله لا يتكلم ولا يرى في الآخرة. ولكن قد يخفى على بعض الناس أنّه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السّلف: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. ومن قالإنّ الله لا يرى في الآخرة فهو كافر. ولا يكفر الشّخص المعيّن حتى تقوم عليه الحجّة )[ مجموع الفتاوى 7/619] .
تأمّل قوله " إنّالمتجهد في مثل هذا - يعني: إنكار علوّ الله - من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحقّ ، فإنّ الله يغفر له خطأه وإن حصل منه نوع تقصير... مثل القول بخلق القرآن" .
فهو قد خالف قواعده ، و خالف الإجماعالذي بيّن أنّ القائل بخلق القرآن كافر دون تفرقة بين الجاهل و العالم، بل نجده أقام الحجّة على بعض العلماء و القضاة من الجهميّة و غيرهم و لم يُكفّرهم ، حيث قال في [ الرّدّ على البكريّ ص 259 ]: (كنت أقول للجهميّة من الحلوليّةوالنّفاة الذين نفوا أنّ الله فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا، لأنّي أعلم أنّ قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنّكم جهال. وكان هذا خطابًا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم) .
و قال أيضا : ( والذي عليه جمهور السّلف أنّ من جَحَدَ رؤيةَ الله في الدّار الآخرة فهو كافرٌ، فإن كان ممّن لم يبلغه العلمُ في ذلك عُرِّف ذلك، كما يُعَرَّف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصرّ على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر) [ مجموع الفتاوى 6/ 486 ].
و استدل على عدم التكفير بما نقله عن الإمام أحمد ، قائلا: (ثم إنّ الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممّن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم ممّا فعلوه به من الظلم والدّعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدّين عن الاسلام لم يجز الاستغفار لهم فإنّ الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمّة صريحة في أنّهم لم يكفّروا المعينين من الجهميّة الذين كانوا يقولون القرآن مخلوق وإنّ الله لا يرى في الآخرة وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنّه كفّر به قوما معيّنين فأمّا أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل فيقال من كفر بعينه فلقيام الدّليل على أنّه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه ومن لم يكفّره بعينه فلانتفاء ذلك في حقّه هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم ) [ مجموع الفتاوى 12 / 489 ] .
في هذا المقطع من كلام ابن تيمية وقفات :
1 - نُقِل عن الإمام أحمد روايات تدل على تكفيره للمأمون و إن كانت غير صريحة ، منها:قال أبو بكر بن الخلال في [ السّنّة رقم1729 ] : (أخبرني أحمد بن محمّد بن مطر ، قال: ثنا أبو طالب ، قال : قلت لأبي عبد الله : إنّهم مرّوا بطرسوس بقبر رجل ، فقال أهل طرسوس : الكافر ، لا رحمه الله . فقال أبو عبد الله : " نعم ، فلا رحمه الله ، هذا الذي أسّس هذا، وجاء بهذا " ) ، و ذكر الذّهبي أنّ قبر المأمون بطرسوس.
تأمّل في قوله " فقال أهل طرسوس : الكافر ، لا رحمه الله " ، الألف واللام هنا للعهد ، و لو لم تكن للعهد لسألهم أحمد عمّن يتكملون ، و هذا إقرار منه على كفره .
2 - و لو ثبت أنّ أحمد لم يكفّر المأمون ، فهي قضيّة عين لا عموم لها ، لعله وُجدت أسباب لا ندري ما هي .
3 - هذا تنزيل حكم ، و العبرة بالتأصيل ، و تأصيل أحمد هو تكفير كل من قال القرآن مخلوق كما مرّ معنا ، أمّا في الواقفة فقد فرّق بين الجاهل والعالم .
4- لو سلمنا أنّ أحمد لا يكفّر إلا من أقام عليه الحجّة ، فلماذا لم يُكفّر ابن تيمية من أقام عليهم الحجّة من قضاة الجهميّة و علمائهم ...؟
5 - كما أنّ الإمام أحمد كفّر ابن أبي دؤاد ، و هو ما نقله الخلال - رحمه الله - : ( أخبرني الحسن بن ثواب المخرميّ قال : قلت لأحمد بن حنبل: ابن أبي دؤاد ؟ قال : كافر بالله العظيم)[ السنة للخلال رقم 1780] .
و المأمون ليس من عامّة الناس ،بل هو من أهل العلم ، قال الذّهبيّ في السّير في ترجمة المأمون : (وكان المأمون عالما فصيحا مُفوّها ) .
وكان ممّن يطلب الحديث، قال الذّهبي: (أبو العباسالسّرّاح : حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال: تقدّم رجل غريب بيده محبرة إلى المأمون ، فقال : يا أمير المؤمنين ، صاحب حديث منقطع به . فقال : ما تحفظ في باب كذا وكذا ؟ فلم يذكر شيئا .
فقال : حدثنا هشيم ، وحدثنا يحيى ، وحدثنا حجاج بن محمد ، حتى ذكر الباب ، ثم سأله عن باب آخر ، فلم يذكر شيئا . فقال : حدثنا فلان ، وحدثنا فلان . ثم قال لأصحابه : يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام ، ثم يقول: أنا من أصحاب الحديث ، أعطوه ثلاثة دراهم ) .
هذا هو المأمون ،فهو قائل بخلق القرآن و داعية إليه و مُلزم غيره بقوة السّلطان ، فلماذا لا يَكفُر ؟ لأنّ القاعدة عند ابن تيميّة في باب الصّفات ، لا يكفر الجاهل حتى تقام عليه الحجّة ، أمّا العالم فحكمه الكفر ، و هو ما ذكر صاحب اختياراته فقال : ( ومن شكّ في صفة من صفات الله - تعالى - ومثله لا يجهلها فمرتدّ وإن كان مثله يجهلها فليس ) [ الاختيارت العلمية لشيخ الإسلام 267 ] .
و المأمون من العلماء و قد أقيمت عليه الحجّة ، فكل هذا يثبت كفره .
بل نقل عن أحمد أنّه قال: ( لما كان في شهر رمضان لليلة سبع عشرة خلت منه، حولت من السّجن إلى دار إسحاق بن إبراهيم، وأنا مقيّد بقيد واحد، يوجّه إليه في كل يوم رجلان يكلماني ويناظراني، فإذا أرادا الانصراف دعوَا بقيد فقيّدت به، فمكثت على هذه الحال ثلاثة أيام، فصار في رجلي أربعة أقياد، فقال لي أحدهما في بعض الأيّام في كلام دار بيننا، وسألته عن علم الله؟ فقال: علم الله مخلوق. فقلت له: يا كافر، كفرت )[ حلية الأولياء 9/197] .
تأمّل قوله " وسألته عن علم الله؟ فقال: علم الله مخلوق. فقلت له: يا كافر، كفرت " ، لقد بنى الإمام أحمد حكمه على جواب المسؤول ، فكفّره و لم يستفصل .
وذكر الذّهبيّ في [ تاريخ الإسلام 18/84 ] :( وقال المَرّوذيّ في كتاب القصص: عزم حسن بن البزّاز، وأبو نصر بن عبد المجيد، وغيرهما على أن يجيئوا بكتاب المدلسين الذي وضعه الكرابيسيّ يطعن فيه على الأعمش، وسليمان التّيميّ .
فمضيت إليه في سنة أربع وثلاثين فقلت: إنّ كتابك يريد قوم أن يعرضوه على أبي عبد الله، فأظهر أنّك قد ندمت عليه. فقال: إنّ أبا عبد الله رجل صالح، مثله يُوفّق لإصابة الحقّ . قد رضيت أن يعرض عليه. لقد سألني أبو ثور أن أمحوه، فأبيت.
فجيء بالكتاب إلى أبي عبد الله، وهو لا يعلم لمن هو، فعلموا على مستبشعات من الكتاب، وموضع فيه وضع على الأعمش، وفيه: إن زعمتم أنّ الحسن بن صالح كان يرى السّيف فهذا ابن الزّبير قد خرج.
فقال أبو عبد الله: هذا أراد نصرة الحسن بن صالح، فوضع على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد جمع للرّوافض أحاديث في هذا الكتاب. فقال أبو نصر: إنّ فتياننا يختلفون إلى صاحب هذا الكتاب. فقال: حذّروا عنه. ثمّ انكشف أمره، فبلغ الكرابيسيّ، فبلغني أنّه قال: سمعت حسينا الصّايغ يقول: قال الكرابيسيّ: لأقولنّ مقالة حتى يقول أحمد بن حنبل بخلافها فيكفر، فقال: لفظي بالقرآن مخلوق. فقلت لأبي عبد الله: إنّ الكرابيسي قال: لفظي بالقرآن مخلوق. وقال أيضا: أقول: إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق من كل الجهات، إلا أنّ لفظي بالقرآن مخلوق. ومن لم يقل إنّ لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر.
فقال أبو عبد الله: بل هو الكافر، قاتله الله، وأيّ شيء قالت الجهميّة إلا هذا ، قالوا كلام الله، ثم قالوا: مخلوق. وما ينفعه وقد نقض كلامه إلا خير كلامه الأوّل حين قال: لفظي بالقرآن مخلوق.
ثمّ قال أحمد: ما كان الله ليدعه وهو يقصد إلى التاّبعين مثل سليمان الأعمش، وغيره، يتكلم فيهم. مات بشر المريسيّ، وخلفه حسين الكرابيسيّ. ثمّ قال: أيش خبر أبي ثور وافقه على هذا ، قلت: قد هجره. قال: قد أحسن.
قلت: إنّي سألت أبا ثور عمّن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: مبتدع. فغضب أبو عبد الله وقال: أيش مبتدع ، هذا كلام جهم بعينه. ليس يفلح أصحاب الكلام).
تأمل قوله " فقال: حذّروا عنه " ، لقد حذّر عنه دون أن يعرفه .
تأمّل قوله " فقال أبو عبد الله: بل هو الكافر، قاتله الله " ، لقد كفّره لمّا سمع مقالتة تلك ، لأنّ القائل من أهل العلم ، على خلاف ما يراه ابن تيميّة، حيث لم يُكفّر علماء الجهميّة ، و لو بعد المناظرة .
تأمّل قوله " فغضب أبو عبد الله وقال: أيش مبتدع ، هذا كلام جهم بعينه " ، لم يرض أحمد بوصف البدعة، بل الحكم أكبر من البدعة إنّه التّجهّم.
و الأوضح من هذا ما أخرجه أبو نعيم عن يحيى بن الرّبيع قال:( كنت عند مالك بن أنس ودخل عليه رجل فقال يا أبا عبد الله، ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق؟ فقال مالك: زنديق فاقتلوه، فقال: يا أبا عبد الله إنّما أحكي كلامًا سمعته، فقال: لم أسمعه من أحد إنّما سمعته منك، وعظم هذا القول) [الحلية 6/325 وأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السٌّنة والجماعة ، والقاضي عياض في ترتيب المدارك ] .
تأمل قوله " فقال مالك:زنديق فاقتلوه"، لم يستفسر مالك عن حال الرّجل ، هل هو من العلماء أو من الجهلة ، بل أمر بقتله ، لأنّ المسألة من الأمور المعلومة من الدّين بالضّرورة و المجمع عليها .
و على هذا كان علماء السّنة ، قال الرّبيع: ( حضرت الشافعيّ ، أو حدثني أبو شعيب، إلا أني أعلم أنّه حضر عبدالله بن عبدالحكم، ويوسف بن عمرو بن يزيد، وحفص الفرد، وكان الشافعيّ يسمّيه: حفصاً المنفرد. فسأل حفص، عبدالله بن عبدالحكم، فقال: ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيبه. فسأل يوسف بن عمرو بن يزيد، فلم يجبه، وأشار إلى الشافعيّ ، فسأل الشافعي، واحتجّ عليه، فطالت فيه المناظرة، فقام الشّافعيّ بالحجّة عليه بأنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وبكفر حفص. فلقيت حفصاً، فقال: أراد الشافعيّ قتلي)[ آداب الشافعيّ لابن أبي حاتم ص 149] .
و جاء في[ شرح أصول الاعتقاد 421] قول الشّافعيّ : ( والله، كفرت بالله العظيم ).
و قال الذّهبيّ في [ميزان الاعتدال رقم 2143 ]:(حفص الفرد ، مبتدع . قال النّسائيّ: صاحب كلام لا يكتب حديثه. وكفّره الشّافعيّ في مناظرته ) .
و مع هذا التّصريح بكفر حفص الفرد ، زعم ابن تيميّة أنّ الشّافعيّ لم يُكفّر حفصا ، فقال :(كذلك الشافعيّ لما قال لحفص الفرد، حين قال: القرآن مخلوق: كفرت بالله العظيم. بيّن له أنّ هذا القول كفر، ولم يحكم بردّة حفص بمجرّد ذلك، لأنّه لم يتبيّن له الحجّة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنّه مرتدّ ، لسعى في قتله) [ مجموع الفتاوى 23/349 ] .
كما أنّ السّلف أجمعوا على قتل الجعد بن درهم ، لأنّه أنكر صفات لله - تعالى - ،و مع التّصريح بكفر الجعد إلا أنّ ابن تيمية قال قولا مخالفا لما عليه السّلف ،
قال في [مجموع الفتاوى 28/555 ] : (ومن كان داعيًا منهم إلى الضّلال لا ينكف شرّه إلا بقتله قتل أيضًا وإن أظهر التوبة، وإن لم يحكم بكفره، كأئمّة الرّفض الذين يضلون النّاس، كما قتل المسلمون غيلان القدريّ، والجعد بن درهم، وأمثالهما من الدّعاة . فهذا الدجّال يقتل مطلقًا . والله أعلم ) .
فبيّن أئمّة نجد حتى لا يغترّ أحد بهذا القول ،
فقال عبد اللطيف بن عبد الرحمن: (وكان الجعد قد سكن حَرّان وخالط الصّابئة واليهود، وأخذ عنهم من المقالات والمذاهب المُكفّرة ما أنكره عليه كافة أهل الإسلام، وكفروه بذلك، حتى إنّ خالد بن عبد الله القسريّ ، أمير واسط في خلافة بني أميّة، قتل الجعد وضحّى به يوم العيد الأكبر، فقال وهو على المنبر: أيّها الناس، ضحّوا تقبّل الله ضحاياكم، فإنّي مُضحٍّ بالجعد بن درهم، إنّه زعم أنّ الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا ، ثمّ نزل فذبحه.
وشكره على هذا الفعل، وصوّبه جميع أهل السنة، وإنّما قال الجعد هذه المقالة لاعتقاده أنّ الخلة، والتكليم، والاستواء، ونحو ذلك من الصّفات، لا تكون إلا من صفات المخلوقات، وخصائص المحدثات)[ الدرر 3/285 ] .
وقال محمّد بن عبد الوهّاب :(ما وقع في زمن التابعين، وذلك قصّة الجعد بن درهم، وكان من أشهر النّاس بالعلم والعبادة، فلمّا جحد شيئا من صفات الله - عز وجل - مع كونها مقالة خفيّة عند الأكثر، ضحّى به خالد القسريّ يوم عيد الأضحى، فقال: أيّها النّاس ضحّوا، تقبل الله منكم ضحاياكم، فإنّي مضح بالجعد بن درهم، فإنّه يزعم أنّ الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما. ثمّ نزل فذبحه، ولم نعلم أحدا من العلماء أنكر ذلك عليه، بل ذكر ابن القيّم إجماعهم على استحسانه)[ الدرر 9/392، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 45 ] .
و غَيْلان القدريّ كفّره الأوزاعيّ ، بعد أن ناظره بأمر الخليفة هشام بن عبد الملك ، وقال الإمام الأوزاعيّ للخليفة: (كافر وربّ الكعبة يا أمير المؤمنين ) .
و تمام القصّة كما يلي : (قال بلغ عمر بن عبد العزيز كلام غيلان القدريّ في القدر فأرسل إليه فدعاه فقال له ما الذي بلغني عنك تكلم في القدر. قال يكذب عليّ يا أمير المؤمنين ويقال عليّ ما لم أقل . قال فما تقول في العلم ؟ ويلك أنت مخصوم ، إن أقررت بالعلم خصمت ، وإن جحدت بالعلم كفرت ، ويلك أقرّ بالعلم تخصم خير من أن تجحد فتلعن ، والله لو علمت أنّك تقول الذي بلغني عنك لضربت عنقك ، أتقرأ " يس والقرآن الحكيم " ؟ قال : نعم . قال : اقرأ . فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم " يس والقرآن الحكيم إنّك لمن المرسلين على صراط مستقيم " إلى أن بلغ " لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون " . قال له : قف ، كيف ترى ؟
قال : كأنّي لم أقرأ هذه الآية قط . قال زد " إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون
" قف . من جعل الأغلال في أعناقهم ؟ قال :لاأدري. قال :ويلك ، الله ، والله قال زد " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدّا " قال : قف . قال :ويلك من جعل السّد بين أيديهم ؟ قال :لاأدري . قال : ويلكالله ، والله ، زد ويلك " وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرّحمن بالغيب فبشّره بمغفرة وأجر كريم " قف ، كيف ترى ؟ قال كأنّي والله لم أقرأ هذه السّورة قط ، فإنّي أعاهد الله أن لا أعود في شئ من كلامي أبدا فانطلق ، فلمّا ولّى قال عمر بن عبد العزيز اللهم إن كان أعطاني بلسانه ومحنته في قلبه فأذِقه حرّ السّيف ، فلم يتكلم في خلافة عمر بن عبد العزيز ، وتكلم في خلافة يزيد بن عبد الملك فلمّا مات يزيد أرسل إليه هشام فقال ألَسْت كنت عاهدت الله لعمر بن عبد العزيز أنّك لا تكلم في شيء من كلامك قال أقلني يا أمير المؤمنين قال لا أقالني الله إن أنا أقلتك يا عدوّ الله أتقرأ فاتحة الكتاب قال نعم فقرأ " بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رّب العلمين الرّحمن الرّحيم مالك يوم الدّين إيّاك نعبد وإيّاك نستعين " قال قف يا عدوّ الله ، على ما تستعين الله على أمر بيدك أم على أمر بيده من ههنا انطلقوا به فاضربوا عنقه واصلبوه ،
قال يا أمير المؤمنين أبرز لي رجلا من خاصتك أناظره فإن أدرك عليّ أمكنته من علاوتي فليضربها وإن أنا أدركت عليه فاتبعني به قال هشام من لهذا القدريّ قالوا الأوزاعيّ فأرسل إليه وكان بالسّاحل فلمّا قدم عليه قال له الأوزاعيّ أخبرني يا غيلان إن شئت ألقيت عليك ثلاثا وإن شئت أربعا وإن شئت واحدة قال ألق عليّ ثلاثا قال أخبرني عن الله قضى على ما نهى ؟ قال لا أدري كيف هذا . قال الأوزاعيّ واحدة يا أمير المؤمنين ثمّ قال أخبرني عن الله أمر بأمر ثمّ حال دون ما أمر ؟ قال القدريّ هذه والله أشدّ من الأولى قال الأوزاعيّ هاتان اثنتان يا أمير المؤمنين ثمّ قال أخبرني عن الله حرّم حراما ثمّ أحله ؟ قال هذه والله أشدّ من الأولى والثانية قال الأوزاعيّكافر ورب الكعبة يا أمير المؤمنين فأمر به هشام فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه وصلب فقال حين أمر به أدركتني دعوة العبد الصّالح عمر بن عبد العزيز قال هشام يا أبا عمرو : فسّر لنا الثلاث التي ألقيت عليه .
قال : قلت له أخبرني عن الله قضى على ما نهى ، إنّ الله نهى آدم عن أكل الشجرة ثمّ قضى عليه أن يأكل منها .
قلت له أخبرني عن الله أمر بأمر ثمّ حال دون ما أمر ،إنّ الله - عز وجل - أمر إبليس بالسّجود لآدم فحال بينه وبين أن يسجد له .
وقلت له أخبرني عن الله - عز وجل - حرّم حراما ثمّ أحله ،حرّم الميتة وأعان على أكلها للمضطر إليها .
قال له هشام فأخبرني عن الأربع ما هي ؟
قال : كنت أقول له أخبرني عن الله - عز وجل - خلقك كما شاء أو كما شئت فإنّه يقول كما شاء ، ثمّ كنت أقول له أخبرني عن الله أرازقك إذا شاء أم إذا شئت ؟ فإنّه يقول إذا شاء ، ثمّ كنت أقول له أخبرني عن الله يتوفاك حيث شاء أم حيث شئت ؟ فإنّه يقول حيث شاء ، ثمّ كنت أقول له أخبرني عن الله يصيّرك حيث شاء أم حيث شئت ؟ فإنّه يقول حيث شاء.فمن لا يقدر أن يزيد في رزقه ولا ينقص في عمره فما إليه من المشيئة شئ.
قال هشام :فأخبرنا عن الواحدة ما هي ؟ قال كنت أقول له أخبرني عن مشيئتك مع مشيئة الله أو دون مشيئة الله ؟ فعلى أيّهما أجابني حلّ قتله ، إن قال مع مشيئة الله صيّر نفسه شريكا لله وإن قال دون مشيئة الله انفرد بالرّبوبيّة.فقال هشام لا أحياني الله بعد العلماء ساعة واحدة...
إلى أن قال ابن عساكر : فقال ابن عون أنا رأيته مصلوبا على باب دمشق)[ تاريخ دمشق لابن عساكر ] .
انظر ، كيف خالف ابن تيمية هذه الآثار الواضحة و الصّريحة ! !
ثمّ نجد ابن تيمية أقام الحجّة على علماء الجهميّة و قضاتهم ... و مع ذلك لم يكفّرهم ، قال في [ مجموع الفتاوى 7/619 ]: ( والتّحقيق في هذا: أنّ القول قد يكون كفراً، كمقالات الجهميّة الذين قالوا: إنّ الله لا يتكلم ولا يرى في الآخرة. ولكن قد يخفى على بعض النّاس أنّه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السّلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر. ومن قال: إنّ الله لا يرى في الآخرة فهو كافر. ولا يكفر الشّخص المعيّن حتى تقوم عليه الحجّة).
لهذا تمسّك به أهل البدع ، حيث كلما ذكرنا مسألة في التكفير و كانت من الأمور المعلومة من الدّين بالضّرورة و من المجمع عليها إلا انتفض أتباع ربيع و الألبانيّ قائلين لا بدّ من التفرقة بين التّكفير المطلق و تكفير المعيّن ، وجهل هؤلاء أنّ هذا التأصيل يقال في المسائل الخفيّة .
مع أنّ مسألة علوّ الله على خلقه من الأمور المعلومة من الدّين بالضّرورة و مجمع عليها بين السّلف،
قال في [ درء تعارض العقل والنقل 7/27] : ( وجواب هذا أن يقال القول بأنّ الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك كالعلم بالأكل والشرب في الجنة والعلم بإرسال الرّسل وإنزال الكتب والعلم بأنّ الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والعلم بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بل نصوص العلوقد قيل إنّها تبلغ مئين من المواضع، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين متواترة موافقة لذلك فلم يكن بنا حاجة إلى نفي ذلك من لفظ معين قد يقال إنه يحتمل التأويل ولهذا لم يكن بين الصّحابة والتابعين نزاع في ذلك كما تنطق بذلك كتب الآثار المستفيضة المتواترة في ذلك وهذا يعلمه من له عناية بهذا الشأن أعظم مما يعلمون أحاديث الرجم والشفاعة والحوض والميزان وأعظم مما يعلمون النصوص الدالة على خبر الواحد والإجماع والقياس وأكثر مما يعلمون النصوص الدالة على الشفعة وسجود السهو ومنع نكاح المرأة على عمتها وخالتها ومنع ميراث القاتل ونحو ذلك مما تلقاه عامة الأمة بالقبو .
ولهذا كان السّلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنّه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين والأمور المعلومة بالضرورة عند السّلف والأئمّة وعلماء الدّين، قد لا تكون معلومة لبعض الناس إمّا لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم بل يكون ذلك الامتناع مانعا له من حصول العلم بذلك كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره لا سيما إذا قام عنده اعتقاد أن الرسول لا يقول مثل ذلك فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري).
بل مسألة علوّ الله على خلقه مجمع عليها بين الملل ، قال ابن تيمية في [مجموع الفتاوى 5/138] : ( وقد اجتمع أهل الأديان مع المسلمين على أنّ الله - تعالى - على العرش وقالوا هم ليس على العرش شيء ،
وقال محمد بن اسحاق بن خزيمة إمام الأئمّة من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثمّ ألقى على مزبلة لئلا يتأذّى به أهل القبلة ولا أهل الذّمّة) .
و قال كذلك في [ مجموع الفتاوى ] : (ولهذا كان الصّواب أنّالجهل ببعض أسماء الله وصفاته، لا يكون صاحبه كافراً إذا كان مقرّا بما جاء به الرّسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يتقضي كفره إذا لم يعلمه ) .
فلم يذكر ابن تيمية بعض الصّفات التي يكفر الجاهل بها ، فإذا كان العبد مقرّا بما جاء عن الرّسول - عليه السّلام - ، و لكنّه يجهل أنّ ربّه حيّ أو موجودأو خالق أو مدبّر...، فهل هذا ينفعه الإقرار العامّ ؟
ليست هناك تعليقات