Header Ads

من هو المسلم في أحكام الدنيا؟










الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: المسلم في أحكام الدنيا هو من أتى بدليل واضح على أنه يخالف الكفار ظاهرا. وليس المسلم في أحكام الدينا من يظهر ما يظهره الكفار أيضا.



فما الفرق بين الإسلام الحقيقي والإسلام الحكمي؟ فالإسلام الحقيقي هو يختص بكون المرء مسلما عند الله تعالى، وهذا من أمور الغيب. قال تعالى: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) (العنكبوت)



وقال تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) (آل عمران)



وقال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) (المنافقون)



ولكي يكون المرء مسلما عند الله فلا بد من توفّر جميع شروط لا إله إلا الله فيه، وهي: العلم واليقين والقبول والانقياد والصدق والإخلاص والمحبة، كما هو معلوم.



وأما الإسلام الحكمي فهو يختص بأن نحكم على المرء بالإسلام في الحياة الدنيا. ونحن لا نستطيع أن نعرف ما في قلبه، فلا يمكن أن نتأكد من توفّر شروط لا إله إلا الله في قلبه فإننا لا نعلم الغيب، لكننا نستطيع أن نعرف أنه يخالف عقيدة قومه المعلومة أو أنه لا يخالفها.



وكذلك سؤالنا عن علمه بالتوحيد لا يعني أننا نتأكد من تحقيقه لشرط العلم حقيقةً... فهذا لا سبيل إليه أصلا، لأننا لا نعلم الغيب. ومن الممكن أنه يكذب وينافق فيقول أنه يعلم أن كذا وكذا هو من أصل الدين مع أنه لا يعتقد أنه منه حقا، فلم يعلمه إذن وإنما أراد أن يوهمنا أنه يعلمه. وكذلك اليقين فنحن لن نعلم أبدا في الدنيا أنه يتيقن بأن التوحيد هو الحق. فقد تبيّن أننا لا نكشف عن تحقيقه لأيّ شيء من هذه الشروط حقيقةً عندما نتبين إسلامه... لكننا نتبين فقط أنه يخالف قومه في معتقدهم مخالفةً ظاهرة، والله أعلم بما في قلبه.



فالمطلوب إنما هو أن يكون عندنا علامة (أي: دليل) على إسلامه في أحكام الدنيا، لأنه واجبٌ علينا أن نفرق بين المسلمين والكفار، وهذا لا يتم اليوم أصلا إلا بسؤال عن العقيدة. ونحن إنما نسأل اليوم عن العقيدة لأن الواجب لا يتم إلا به، ولولا الحاجة إلى هذا وعدم العلامات الظاهرة على إسلام الناس لَما سألنا عن العقيدة بالتفصيل. لكن الحاجة تدعو إلى السؤال عن العقيدة، كما دعتْ إليه من قبل.



قال أبو عبد الله الشيباني في السير الكبير (152/1): فَأَمَّا الْيَوْمَ بِبِلَادِ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَكِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ رَسُولٌ إلَى الْعَرَبِ ، لَا إلَى بَنِي إسْرَائِيل .

...

فَمَنْ يُقِرُّ مِنْهُمْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ دِينِهِ مَعَ ذَلِكَ ، أَوْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ . حَتَّى إذَا قَالَ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ : أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ أَسْلَمْت لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ .

...

فَإِنَّ الْمُسْلِمَ هُوَ الْمُسْتَسْلِمُ لِلْحَقِّ الْمُنْقَادُ لَهُ ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْحَقَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ .

فَلَا يَكُونُ مُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظِ فِي حَقِّهِمْ دَلِيلَ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ دِينِهِ مَعَ ذَلِكَ . اهـ



فحتى في زمانه هو كان لا بد من سؤال هؤلاء عن عقيدتهم، مع نطقهم بالشهادتين، فكان يجب أن يسألهم المسلمون: "هل تقولون أن محمدا صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى جميع الناس"؟ وهذا سؤال عن عقيدتهم. واليوم يجب أن نسأل عن العقيدة أكثر، لأن الكفريات الثابتة عن الأقوام أصبحت أكثر. فهم لا ينكرون أمرا واحدا من أمور التوحيد فقط، لكنهم ينكرون أمورا كثيرة.



قال أبو عبد الله الشيباني في السير الكبير (160/1): فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ ، وَهُمْ قَوْمٌ لَا يُوَحِّدُونَ اللَّهَ . فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إسْلَامِهِ . وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إذَا أَقَرَّ بِخِلَافِ مَا كَانَ مَعْلُومًا مِنْ اعْتِقَادِهِ اهـ



ولو كنا نسألهم عن أمر واحد فقط وهم ينكرون - مثلا - خمسة أمور، فإنه لا يثبت عندنا أنهم قد أقروا بخلاف ما هو معلوم من اعتقادهم...لأن المطلوب أن يخالفوا كل ما هو معلوم من اعتقاد قومهم، لا بعضه فقط.



وكذلك كان هناك قوم مسيلمة الكذاب عليه لعنة الله، وهو كان منتسبا إلى الإسلام كما أن قومه كانوا منتسبين إلى الإسلام. فنجد في زاد المعاد لابن القيم (533/3): وَقَدْ كَانَ كَتَبَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللّهِ إلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ أَمّا بَعْدُ فَإِنّي أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَك وَإِنّ لَنَا نِصْفَ الْأَمْرِ وَلِقُرَيْشٍ نِصْفَ الْأَمْرِ وَلَيْسَ قُرَيْشٌ قَوْمًا يَعْدِلُونَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولُهُ بِهَذَا الْكِتَابِ فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى . أَمّا بَعْدُ فَإِنّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ. اهـ



فهو كان منتسبا إلى الإسلام وكذلك قومه. وهل يقول أحد أنه يصح أن يحكم المسلمون في ذلك الزمان على المعين من قوم مسيلمة بالإسلام لأن هذا المعين ينطق بالشهادتين؟ فحتى الذين يقولون أنه يمكن أن نحكم على إسلام الناس اليوم بالسلام والصلاة...فإنهم يقولون: لا يمكن أن يحكم المسلمون في زمان مسيلمة على المعين من قومه بالإسلام، وإن كان ينطق بالشهادتين، لأنه لا بد أن يظهر أنه بريء من مسيلمة وأنه ينكر أنه نبي.



فتأمل...هؤلاء يقولون الحق في شأن قوم مسيلمة، ثم لا يقولون الحق في شأن الأقوام اليوم، فإن لم يكن هذا تناقضا واضحا - ولا تناقض في دين الله فدلّ على أنه ليس منه - فما أدري ما هو. قال الله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ (43) (القمر)



وقال الله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) (النساء)



وأرجو أن لا ننسى شيئا مهما: كثير من الناس اليوم هم ينكرون أن كل من يشرك بالله شركا أكبر لا يكون إلا مشركا بالله شركا أكبر، وهم يقولون: يمكن أن يشرك المسلم بالله شركا أكبر وهو لا يكون مشركا، لكنه مسلم معذور بجهله.



ثم من قال مثل هذا فليس ببعيد أن لا يقبل أيضا أنه لا يصح أن نحكم على إسلام الناس بما لا يدل على إسلامهم. ثم هؤلاء غالبا ينكرون أمورا كثيرة هي من أصل الدين. فمسألة الحكم على الناس في أحكام الدنيا هذه ليست أول ما يحتاجون إلى بيانه، مع أنها من التوحيد، لكن أول ما يحتاجون إلى بيانه هو أمور مثل: كل من يشرك بالله هو مشرك، ولا يكون معذورا بجهل ولا بتأويل.



وفي نظره هو لا يوجد أصلا من هو منتسب إلى الإسلام إلا وهو مسلم، لأنه يرى أن كل من ينطق بالشهادتين يكون مسلما، لأن التكفير لا يصح في دينه هو الذي سماه بالإسلام، بل هو يرى أنه لا يمكن في حالة من الحالات أن نكفر أحدا. ولهذا: هو يعتقد أن السلام والصلاة اليوم من علامات الإسلام، لأنه يعتقد أنه لا يأتي بهما إلا من هو مسلم... فهو يقول في كل هؤلاء الذين يدّعون أنهم مسلمون أنهم إخوته في الله. فيجب أولا أن يفهم لماذا لم يعرف كثير جدا من هؤلاء التوحيد بعدُ، وإلا فلا سبيل إلى أن يفهم أن ليس كل من يسلّم ويصلي يكون مسلما. فهذا أمر مهم جدا يجب أن لا ننساه.



والأصل في دِيار الكفر أن الناس هم كفار، ولا يمكن أن نحكم على المعيَّن منهم بالإسلام إلا وإسلامه ثابتٌ. فالظن وحده لا يكفي.



ولا يصح أن يقول أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع الظن. كيف وقد قال الله تعالى: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) (النجم)



وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ (صحيح البخاري)



وهو لم يأمرنا بأن نحكم على إسلام الناس بما لا يدلّ على إسلامهم شيئا قليلا، فلهذا لا يمكن أن نفهم من قوله "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" أنه يمكن أن نحكم على كل أحد في كل زمان ومكان بالإسلام إذا نطق بالشهادة، وكذلك علماء الإسلام لم يقولوا بمثله بل بيّنوا معنى الحديث، وأن المعنى هو أن أننا نحكم على إسلام المرء إذا أتى بدليل واضح على أنه يخالف قومه. والذي يقول أن كل من ينطق بالشهادتين يكون محكوما عليه بالإسلام في كل زمان ومكان فإنما يستدلّ ببعض الأحاديث مع الإعراض التام عن باقي الأدلة، وليس له ذلك.



قال الشاطبي في الموافقات (176/3): فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كُلِيّة، ثم أتى النص على جُزْئِيّ يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة؛ فلا بد من الجمع في النظر بينهما لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد. اهـ



فمن عرف التوحيد وعرف أن هناك قواعد عامة في الدين ويعلم أنه لا يُبطِلها حديثٌ ولا آية فإنه قد فهم الأمر كله، ولا يفهمه إلا من وفّقه الله لهذا. ومن هذه القواعد العامة: أن الكفر الثابت لا يزول عن المرء بمجرد الشك والظن. فإن كفر الأقوام - الذين هم جماعات كبيرة جدا من الناس المعيَّنين - هو ثابتٌ في غاية الثبوت، وقد تواتر كفرهم عنهم والله المستعان نسأله الهداية لنا ولهم آمين.



ومن يحكم على مَن كفرُه ثابتٌ بالإسلام بسبب بمجرد اتباع الظن (كالذي يحكم على إسلام الناس بالسلام والصلاة) فكفرُه هو كفر الإنكار. فإنكار كون دين الكفار كفرا هو كفر الإنكار، والكافر إنما هو حامل للكفر كما أن المسلم هو حامل للإسلام. فمن أنكر كفرَ واحد من الكفار فقد أنكر أن دين الكفار يكون - بالنسبة إلى هذا الرجل - كفرا، وإلا فدين الكفار يصاحبهم دائما ما داموا كفارا ولا بد فإنه من المستحيل أن يخلو قلب كافر عن الكفر ما دام كافرا.



فلا سبيل إلى التفرقة بين حامل الدين والدين نفسه، فلا يصح أن يقال أنّ دينه كفر لكنه ليس كافرا بل هذا كفر وتناقض محض. والذي يشك في كفر مَن كفرُه ثابتٌ فكفره هو كفر الشكّ، كالذي يشك في أن دين الكفار هو كفرٌ وإن لم يقطع بأنه ليس كفرا.



قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (صحيح مسلم، حديث أبي هريرة رضي الله عنه)



فتأمل... لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "الناس" لكن المراد إنما هو بعض الناس، أي: مشركو العرب في زمانه ومن كانت حالتهم كحالتهم، لا غيرهم. وكيف أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع الظنون في الحكم على الناس، مع أن القرآن ينص على أن اتباع الظنون هو من شر صفات الكفار؟ قال الله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) (الأنعام)



فهذا الحديث هو الدليل الذي يبين لنا متى نحكم على أحد بالإسلام. فمعنى هذا الحديث هو: إذا أظهر المرء ما يدلّ على أنه يخالف قومه في العقيدة وعلى أنه دخل في دين الله نحكم عليه بالإسلام. وليس معنى هذا الحديث أننا نحكم على كل من قال لا إله إلا الله في كل مكان وزمان بالإسلام. بل معناه أننا نحكم عليه بالإسلام إذا أتى بدليل على أنه يخالف قومه في عقيدتهم ودخل في الإسلام، كما نجده في شرح النووي على صحيح مسلم (206/1): قال الخطابى رحمه الله معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لانهم يقولون لا اله الا الله ثم يقاتلون اهـ



وقال عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد (صـ 106): وقد أجمع العلماء على أن من قال : لا إله إلا الله ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمقتضاها أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفى والإثبات

قال أبو سليمان الخطابى رحمه الله فى قوله : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون : لا إله إلا الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف



وقال القاضى عياض : اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى فى عصمته بقول لا إله إلا الله إذ كان يقولها فى كفره

انتهى ملخصا



وقال النووى : لا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم كما جاء فى الرواية ويؤمنوا بى وبما جئت به

وقال شيخ الإسلام لما سئل عن قتال التتار فقال : كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه كما قاتل أبو بكر والصحابة رضى الله عنهم مانعى الزكاة وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم قال : فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال أو الخمر أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التى لا عذر لأحد فى جحودها أو تركها التى يكفر الواحد بجحودها



فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء قال : وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة بل هم خارجون عن الإسلام انتهى

قوله : ( وحسابه على الله ) أي الله تبارك وتعالى هو الذى يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة فإن كان صادقا جازاه بجنات النعيم وإن كان منافقا عذبه العذاب الأليم وأما فى الدنيا فالحكم على الظاهر فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه ظاهرا والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه اهـ



فانظر إلى قوله: "من أتى بالتوحيد" ولم يقل: "من نطق بالشهادتين"، فإنه من الممكن في حالات كثيرة أن ينطق المرء بالشهادتين وهو لم يأتِ بالتوحيد لأنه لا يفهم المعنى أو لا يعمل به. ثم قال أن الإتيان بالتوحيد هو شرط لنحكم على المرء بالإسلام ظاهرا. وانظر كيف قال أن الحكم على الظاهر، مع أنه نقل عن القاضي عياض أنه قال: "اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى فى عصمته بقول لا إله إلا الله إذ كان يقولها فى كفره ".



فهذا يبيّن أن معنى (الظاهر) إنما هو إظهار المرء أنه يخالف قومه في العقيدة، فتأمّل... ليس معناه ما يقوله بعض الناس، يقولون أن معناه النطق بالشهادة أو بالشهادتين حتى لو كان قومه كلهم ينطقون بالشهادة أو الشهادتين. وكذلك باقي النص يؤكّد معنى (الظاهر) ويبين تبيينا واضحا أن المعنى إنما هو إظها المرء أنه يخالف قومه في معتقدهم، وأنه يجب أن يكون دليلا واضحا على مخالفته إياهم، لا شيئا يحتمل هذا ويحتمل غيره.



وكيف نعرف أن أحدا يخالف عقيدة قومه وأنه دخل في الإسلام اليوم؟ فالثابت اليوم أن الناس يجهلون معنى لا إله إلا الله كاملا (إلا أن يعرفوا قليلا من المعنى فقط). وعندما نكون مع الواحد منهم يجب إثباتُ أنه يعرف المعنى كله. فلو نسأله عن بعض المعنى فقط فليس عندنا دليل، بل عندنا شيء يتطرق إليه الاحتمال (أي لا نعرف أنه قد فهم كل معنى لا إله إلا الله). فإذا سألناه عن التوحيد كله بالتفصيل نعرف أنه يعرف المعنى كله، فلا يكفي أن نسأله عن بعض التوحيد فقط.



والذين يحكمون على المعينين من أقوامهم على الإسلام فإنما يصعب عليهم - هدانا الله وإياهم - أن يسوّوا بين أقوامهم وبين أهل الكتاب، وأن يسوّوا بين أقوامهم وبين قوم مسيلمة، وهذا أمر لا بد أن يتراجعوا عنه وإلا فليسوا مستسلمين لله سبحانه وتعالى كل الاستسلام ما داموا على حالتهم هذه.



ولقد عَلِم المسلمون أنه لا سبيل اليوم إلى الحكم بالشعائر الظاهرة على إسلام المرء، لأنها مشتركة بين المسلمين والكفار فهي تحتمل أن المعيَّن مسلمٌ وتحتمل أنه منتسبٌ إلى الإسلام مشركٌ كافرٌ. والمحتمل لا يكون دليلا أبدا على إسلام المعيَّن. وكذلك هناك طوائف مِن الكفار هم يوافقون المسلمين على أنه لا حُكْمَ اليوم بالشعائر. فمن تعلّم التوحيد فقد علم أنه لا يمكنه أن يحكم على أحدٍ بالإسلام إلا وقد تبيّن أنه يُخالِف الكفار في جميع كفرياتهم التي هي مِن أمرهم المعلوم الثابت، مثل جهلِهم بأن التحاكم هو عبادةٌ وعدم تكفيرهم المشركين وجهلهم بمعاني الولاء والبراء إلى غير ذلك مما يطولُ ذكرُه. وهذا هو الحكم على المرء بالإسلام في أحكام الدنيا، فإن كلّ مَن آمن بالله وكفر بالطاغوت فهو مسلمٌ عند الله، لكن ليس كلّ مَن قال أنه آمن به تعالى وكفر بالطاغوت هو مسلمٌ عندنا في أحكام الدنيا.



فلو قال كافرٌ: أنا مؤمنٌ بالله كافرٌ بالطاغوت فليس لأحد أن يحكم عليه بالإسلام، لأنه يوجد كثيرون مِن الكفار هم يقولون هذه الجملة وليسوا مِن المسلمين. لكن بعض الكفار قالوا: أحكمُ على المُعيَّن بالإسلام إذا قال: "أنا مؤمنٌ بالله كافر بالطاغوت". فالسؤالُ: لما لا تحكمون على مَن يقول "لا إله إلا الله" بالإسلام؟ فإن قالوا: "لأنه لا يثبتُ أنه يفهم ما يقولُه، ولأن الكفار يقولونه أيضا"، قِيلَ لهم: وكذلك مَن قال "أنا مؤمن بالله كافر بالطاغوت" فإنه يستحيلُ الحكمُ عليه بالإسلام في أحكام الدنيا - إلا وهو يفسّر قوله كل التفسير فيتبيّن أنه يخالف الكفار في أمرهم كله - لأنه لا يثبتُ فهمُه بمجرد قوله هذه الجملةَ ولأن الكفار يقولونه أيضا.



ثم مِن الكفار مَن يقول: أحكم على المُعيَّن بالإسلام إذا قال: "أنا مؤمن بالله كافر بالطاغوت وأكفِّر المشركين وأتبرأ منهم،" أو يقول هذا ويزيدُ عليه قليلا مِن التوضيح. وليس هذا القول بعلامة على إسلامه، لأن العلامة هي الدالّة وما دلّ على شيء فهو دليلٌ فالعلامة دليلٌ على إسلام أحد، والدليل على الإسلام لا يكون شيئا محتملا، يحتمل أن المعيَّن مسلم ويحتمل أنه كافر. قال تعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ (البقرة: 273)



وقال البغوي في تفسيره (1 / 338): السيماء والسيمياء والسمة: العلامة التي يعرف بها الشيء



وقال ابن القيم في التفسير القيم (1 / 276): وهي العلامة الدالة على حالتهم التي وصفهم الله بها اهـ





فمَن قال أنه يكفر بالطاغوت ويتبرأ من الشرك وأهلِه فلا يثبتُ أنه يعرف معنى الشرك ولا العبادة وهناك أمورٌ أخرى كثيرة لا يثبتُ عِلمُه بها وكلها من أصل الدين. بل لو سألنا من ينتسب إلى منهاج السلفية زورا وبهتانا: هل تكفِّر المشركين، فإنه يقول: نعم أنا أكفرهم. لكنه يعني بذلك أنه يكفِّر المشركين الذين لا ينتسبون إلى الإسلام أصلا.



وهناك كلامٌ للكاساني في بدائع الصنائع (291/15) فيمن يُحكم على إسلامه - في عصره هو - فذكَرَ أربعة أصناف. والصنف الرابع هم أهل الكتاب: وَإِنْ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الرَّابِعِ فَأَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي عَلَيْهِ ؛ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ ؛ لِأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُقِرُّ بِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ بُعِثَ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ إتْيَانُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِدُونِ التَّبَرُّؤِ دَلِيلًا عَلَى إيمَانِهِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ : أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ مُسْلِمٌ أَوْ قَالَ : آمَنْتُ أَوْ : أَسْلَمْتُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَمُسْلِمُونَ ، وَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ هُوَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ. اهـ



فتأمل... فإنه قال: لا يُحكَم على الكتابيّ بالإسلام إذا نطق بالشهادتين، لأن منهم مَن قال: "محمدا صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى العرب خاصّة دون غيرهم". ولم يقل: لأن كلّا منهم يقول: "هو مبعوث إلى العرب خاصّة". لكن بعضهم قال: "ليس مبعوثا إلى الناس كافّةً". فنعرف: مَن نطق منهم بالشهادتين فإنه يحتمل أنه أراد الدخول في الإسلام الذي هو دين الله، ويحتمل أنه أراد أنه باقٍ على دينه الأصلي الذي هو الكفر. فكفرُه قد ثبَتَ - والأصلُ في قومٍ مِن أهل الكتاب هو الكفر - ثم لا يزولُ بالشكوك والظنون. فإذا عَلِمنا هذا فإنه عامّ في كلّ قومٍ مِن الكفار فلا يثبتُ إسلام المعيَّن منهم إلا بالعلم، لا بالشك المُريب.

ليست هناك تعليقات