إرادة التحاكم إلى الطاغوت
قد أنزل الله عز وجلّ الحكم بنقض الإيمان على من يريد أن يتحاكم إلى الطَّاغوت،
فقال:" يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ "ولم يقل يتحاكمون إلى الطَّاغوت، فلم يؤخر تنزيل الحكم حتى يبدأ من يريد أن يتحاكم إلى الطَّاغوت التحاكم بالفعل أوحتى يتمه إلى نهايته.
فبدا واضحاً أنَّ الحكم تنـزَّل بمجرد ظهور إرادة التحاكم وذلك قبل الشروع فيه، كما أفاد ذلك أيضاً أنَّ إرادة التحاكم تنشأ قبل فعل التحاكم نفسه.
وإرادة الفعل في لغة العرب:
تعنى طلب ذلك الفعل واختياره والرغبة فيه والرجوع إليه والإنقياد له ومشيئته والتهيؤ له وقصده على حالته المعروف بها، وقد تكون إرادة الفعل هذه بمحبة وقد تكون بغير محبة أي أنَّك تريد الفعل وإن كنت له كارهاً.
إرادة التحاكم إلى الطاغوت هي إرادة رد النـزاع إلى الطَّاغوت ،فبمجرد ظهور إرادة ردّ أي نزاع إلى الطَّاغوت من مدعِى إيمان ينتقض بذلك إيمانه على الفور، ولذلك وصف الله من يفعل ذلك بقوله:
" يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ" وهذا الحكم يتنزل حتى وإن لم ينته ردّ النزاع إلى الطَّاغوت بمحاكمة فعلية،
ذلك لأنً ردّ النـزاع إلى الله ورسوله كان شرطاً لذلك الإيمان،قال تعالى :
"إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" فبمجرد ردِّه إلى الطَّاغوت انتقض الشرط ردّ النزاع إلى الله ورسوله فانتقض معه المشروط وهو الإيمان، وكان وصفه": يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ" ولهذا يكفر من يظهر منه إرادة ردّ النزاع إلى الطَّاغوت وإن لم يتحاكم إليه بالفعل.
ولايصح القول أن فلان ذهب إلى محكمة قضاء الطاغوت ليُبَرئ نفسه لا ليتحاكم لأنه لم يرد التحاكم إعتباراً لنيته وجعلها شرطاً لتكفير فاعل التحاكم وذلك لأمرين :
أولهما : بطلان إعتبار المقاصد في فعل الكفر الصريح إذ أن أفعال الكفر تدُلّ دلالة صريحة على فساد الإعتقاد، وذلك إعمالاً لقاعدة التلازم بين الظاهر والباطن التى هي العلامة الفارقة بين المسلمين من أهل السنة والجماعة وبين المشركين من الجهمية والمرجئة، وقد بينا ذلك فى مقدمات هذا البحث.
ثانيهما : أن من ذهب لجلسة حكم الطاغوت مختاراً قد تحققت عنده الإرادة التي هي قصد الفعل وطلبه والتهيؤ له، ومعلوم أنها تكون قبل الفعل، فكيف يُقال أو يوصف من يلبس هندامه ويبحث عن مستنداته التي تثبت أن العقار ملكه ويودعه أهله بالدعاء له بالظفر بممتلكاته ويتوجه إلى المحكمة بأنه غير مُرِيد للتحاكم أو أنعدمت عنده الإرادة !!
فمن يختار الطّاغوت كجهة للفصل، فقد إختار التحاكم إليه مهما إدَّعى من نوايا، لأن هذا هو ظاهر الفعل الذى اختاره، ولا يشفع له أن يدعى أنَّه لمـا اختار الطَّاغوت كجهة للفصل كانت نيته أنَّه يريد كذا أو يريد كذا ولم يُرِد التحاكم إليه.
وهذا عين ما ادعاه المنافقون عندما أصابتهم مصيبة بتحاكمهم إلى الطَّاغوت فراحوا يدَّعون أنَّهم ما أرادوا إلَّا الإحسان والتوفيق وليس الفعل فيه ذلك، لأن ما أرادوه من اختيار كعب بن الأشرف كجهة فصل كان إرادةً لفعل ظاهره معروف وهو أنَّه ردٌ للنزاع للطَّاغوت وتحاكم إليه وهو كفر بيِّن وليس فيه إحسان أو توفيق، فلا يغير منه ادعاء ولا تصححه نية. قال تعالى على لسان المنافقين بعد أن تحاكموا إلى الطَّاغوت: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا)
النساء61، وكذلك اليهود لما جاءوا النبى يطلبون منه الحكم فى اليهوديين الذين زنيا وكان حقيقتهم أنَّهم كانوا كارهين له وإنَّما جاءوه مختبرين كما هو واضحٌ من قوله تعالى): يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) المائدة41. ومع ذلك فإنَّ الله عز وجل عدَّ مجيئهم إليه لطلب الحكم منه حيث هذا هو ظاهر فعلهم مع كونهم كارهين له كما أنَّهم جاءوه مختبرين، عدَّهم بمجرد إختيارهم له كجهة للفصل متحاكمين إليه وخيَّره في أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم فقال تعالى ذكره: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) المائدة42.
فدل ذلك على أنَّ إرادة التحاكم تتحقق مع ادِّعاء نية أخرى-بخلاف التحاكم- لتلك الإرادة ،بل ومع إدِّعاء كراهية الجهة التى يُطلب منها الحكم أيضاً.
فمن ظهرت إرادته لرد النـزاع إلى الطَّاغوت بأن ظهر منه قولٌ أو فعلٌ يفيد طلبه لذلك الردّ على هيئته المعروف بها،كالتسجيل بالمنازعة أو الشكاية عند جهة القضاء،أو إجابة الدعوة الصادرة من محكمة القضاء للفصل فى النزاع ،فهو مريد للتحاكم إلى الطاغوت وهذا هو توصيفه الشرعى، وأمَّا عن حكمه الشرعى فهو الذي أنزله الله بالكفر ونقض الإيمان وإن نازع فى ذلك من نازع.
ليست هناك تعليقات