ابن القيّم اعتذر حتّى للرافضة والمعتزلة والقدريّة والجهميّة وغلاة المرجئة ونحوهم . قال ابن القيّم: [78 - ( فصل )
الطريق السادس عشر الحكم بشهادة الفساق - وذلك في صور :
إحداها : الفاسق باعتقاده ، إذا كان متحفظا في دينه ، فإن شهادته مقبولة وإن حكمنا بفسقه ، [ ص: 146 ] كأهل البدع والأهواء الذين لا نكفرهم ،
كالرافضة والخوارج والمعتزلة ، ونحوهم ، هذا منصوص الأئمة . ..... فأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام ، ولكنهم مخالفون في بعض الأصول - كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم . فهؤلاء أقسام : أحدها : الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له ، فهذا لا يكفر ولا يفسق ، ولا ترد شهادته ، إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى ، وحكمه حكم المستضعفين من
الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفوا غفورا . [ ص: 147 ] ...... القسم الثالث : أن يسأل ويطلب ، ويتبين له الهدى ، ويتركه تقليدا وتعصبا ، أو بغضا أو معاداة لأصحابه ، فهذا أقل درجاته : أن يكون فاسقا ،
وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل ، فإن كان معلنا داعية : ردت شهادته وفتاويه وأحكامه ، مع القدرة على ذلك ، ولم تقبل له شهادة ، ولا فتوى ولا حكم
، إلا عند الضرورة ، كحال غلبة هؤلاء واستيلائهم ، وكون القضاة والمفتين والشهود منهم ، ففي رد شهادتهم وأحكامهم إذ ذاك فساد كثير ، ولا
يمكن ذلك ، فتقبل للضرورة .] الطرق الحكمية.
وقد مال إلى القول بفناء النار، وقواه، وذلك في كتابه (حادي الأرواح) (وشفاء العليل) كما أنه توقف في المسألة في كتابه (الصواعق المرسلة).
قال ابن القيم في حادي الأرواح...:
(ولا ريب أن من قال هذا القول عن عمر ونقله عنه إنما أراد بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها.. فأما قوم أصيبوا بذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم
أنهم يخرجون منها.. وأنهم لا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه.. ولفظ أهل النار لا يختص بالموحدين بل يختص بمن عداهم)
ثم بعد هذا ذكر قول الذين قطعوا بدوام النار.. وقال في احتجاجهم بالإجماع..:
(فكثير من الناس يعتقدون أن هذا مجمع عليه بين الصحابة والتابعين لا يختلفون فيه.. وأن الاختلاف فيه حادث وهو من أقوال أهل البدع..)
ثم رده بقوله..:
(الإجماع الذي ادعيتموه غير معلوم.. وإنما يظن الإجماع في هذه المسألة من لم يعرف النزاع.. وقد عرف النزاع فيها قديما وحديثا.. بل لو كلف
مدعي الإجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم إلى الواحد أنه قال إن النار لا تفنى أبدا لم يجد إلى ذلك سبيلا.. ونحن قد نقلنا عنهم
التصريح بخلاف ذلك)
وذكر استدلالهم بأن..: (السنة المستفيضة أخبرت بخروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان دون الكفار.. وأحاديث الشفاعة من أولها إلى آخرها
صريحة بخروج عصاة الموحدين من النار.. وأن هذا حكم مختص بهم فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم ولم يختص الخروج بأهل الإيمان)
ثم رده بقوله..: (وأما مجيء السنة المستفيضة بخروج أهل الكبائر من النار دون أهل الشرك.. فهي حق لا شك فيه.. وهي إنما تدل على ما قلناه من
خروج الموحدين منها وهي دار العذاب لم تفن.. ويبقى المشركون فيها ما دامت باقية والنصوص دلت على هذا وعلى هذا)
ثم يقال أيها الفضلاء.. إذا كان القول السابع (وهو فناء النار) مختص بنار الموحدين.. فهل على كلامكم القول الثامن أيضا في نار الموحدين وأنها لا
تفنى وأن أهلها لا يخرجون منها..؟!
فواضح للمنصف أن ابن القيم حكى القولين واستدل للقول بفناء النار.. ولم يخص نار الموحدين.
أمّا ما قاله في في (( طريق الهجرتين )) ص 254 –255 في فصل أن الله خلق الدارين وخص كل دار بأهل :
( والله ُ سبحانه مع كونه خالق كلّ شيء , فهو موصوفٌ بالرضا والغضب والعطاء والمنع والخفض والرفع والرحمة والانتقام , فاقتضت حكمته
سبحانه , أن خلق دار الطالبي رضاه , العالمين بطاعته , المؤثرين لأمره , القائمين بمحابه , وهي الجنة وجعل فيها كلَّ شيء مرضي , وملأَها من كلِّ
محبوب ومرغوب ومشتهى ولذيذ , وجعل الخير بحذافيره فيها , وجعلها محلّ كلِّ طيب , من الذوات والصفات والأقوال . وخلق داراً أخرى , لطالبي
أسباب غضبه وسخطه المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته , والعاملين بأنواع مخالفته , والقائمين بما يكرهُ من الأعمال والأقوال ,
الواصفين له بما لا يليق به , الجاحدين لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله , وهي جهنم , وأودعها كل شيء مكروه وسجنها مليءٌ
من كلَّ شيءٍ مؤذ ومؤلم , وجعل الشر َّ بحذافيره فيها وجعلها محلَّ كلّ خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال .
فهاتان الداران هما دار القرار ) أ. هـ ، وفي (( الوابل الصيب )) ص 49: (وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب ودار
الخبيثين، فالله تعالى يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشيء المتراكب بعضه على بعض ثم يجعله في جهنم مع أهله فليس فيها إلا
خبيث، ولما كان الناس على ثلاث طبقات: طيب لا يشينه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض
ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان، ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة
الموحدين أحد، فإنه إذا عذبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة ولا يبقى إلا دار الطيب المحض ودار الخبيث المحض). اهـ، فليس صريحا
بنقض قوله للفناء بعد نجاة العصاة. بل مداره هو فناء دار العصاة دون فناء الجنّة والنّار. فإذا فنت دار العصاة، قال (أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة
ولا يبقى إلا دار الطيب المحض ودار الخبيث المحض)، فلم يجب هل بقاؤهما من بعدُ أبديّان أم لا! والسّلف كانوا لا يقبلون توبة مذنب إلّا بالرّجوع
عن محلّ الذّنب يقينا، لا تلميحا ولا احتمالا! هذا إن فرضنا أن ما قاله ابن القيم في (الوابل الصيب) و(طريق الهجرتين) كان بعد ما ذكره في (حادي الأرواح) و(شفاء العليل) و(الصواعق المرسلة).
فتقرّر أنّ ما تأصّل في ابن القيّم هو الكفر ولم يثبت له الإسلام بعد ذلك بحكم اليقين. وهو عاذريّ وخالف الحديث والأثر والإجماع في طلاق الحائض
مثل شيخه ابن تيمية. فهو في ظاهره كافر وسريرته موكلة إلى الله. ومن لم يقل أنّه في ظاهره كافر وقد بلغه كفره، فهو مثله.
ليست هناك تعليقات