وضوح تجهم الخطابي كما أورده ابن حجر الجهمي
فتح الباري
بشرح صحيح البخاري
لابن حجر العسقلاني
الجزءالسابع عشر
ص533
قوله -ودنا الجبار رب العزه فتدلى حتى كان منه قاب قوسين او ادنى-في روايه ميمون المذكوره -فدنا ربك عزوجل فكان قاب قوسين او ادنى-
" قال الخطابي ليس في هذا الكتاب - يعني صحيح البخاري - حديث أشنع ظاهرا ولا أشنع مذاقا من هذا الفصل فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر وتمييز مكان كل واحد منهما ، هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل ، قال : فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلا هذا القدر مقطوعا عن غيره ولم يعتبره بأول القصة وآخرها اشتبه عليه وجهه ومعناه وكان قصاراه ما رد الحديث من أصله ، وأما الوقوع في التشبيه وهما خطتان مرغوب عنهما ، وأما من اعتبر أول الحديث بآخره فإنه يزول عنه الإشكال فإنه مصرح فيهما بأنه كان رؤيا لقوله في أوله " وهو نائم " وفي آخره " استيقظ " وبعض الرؤيا مثل يضرب ليتأول على الوجه الذي يجب أن يصرف إليه معنى التعبير في مثله
قال الخطابي: (( ليس في هذا الكتاب - يعني: صحيح البخاري - حديث أشنع ظاهراً، ولا أشنع مذاقاً، من هذا الفصل، فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما، هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل. ثم اختار أن هذا الحديث رؤيا منام، أو أن أنساً حكاه من تلقاء نفسه لم يعزه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - )) (3).
أقول والكلام الغنيمان: أما كون هذا الفصل شنيعاً ظاهراً ومذاقاً، فذلك في نظر الجهمية الذين يزنون كلام الله وكلام الرسول بما يظنونه براهين عندهم، وهي مجرد شبهات وأوهام، أو يزنون كلام الله ورسوله بأذواقهم.
وهذه الشناعة التي يظنها الخطابي - عفا الله عنا وعنه - قد ترد لو كان ما يختص الله به من الأفعال والصفات على وفق مذاق أهل التعطيل ومذهبهم، وقياساتهم الفاسدة.
أما إذا كان العبد منقاداً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وموقناً بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بالله، وأخشى له من كل الناس قاطبة، وأنه أقدرهم على البيان والإفصاح عما يريد، وهو أيضاً أنصحهم للأمة، وأحرصهم على هدايتها، إذا كان العبد موقناً بذلك كله، فلن يكون هذا الفصل وأمثاله مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - شنيعاً لا ظاهراً ولا مذاقاً كما زعم الخطابي.
''''''''''
(1) المصدر المذكور (2/395).
(2) الدر المنثور )) (5/190).
(3) الفتح )) (13/483).
وأما محاولته الطعن في راوي الحديث - أنس بن مالك - رضي الله عنه، وأنه إنما حكى هذا القول من عند نفسه، وقد سبق أن قال في عبد الله بن مسعود مثل هذا، وهذا زلة منه عظيمة، وخروج عن نهج أهل الحق، وهذا ما يتمناه كل زنديق، ورافضي خبيث، حتى يتسنى لهم إبطال الشرع كله؛ لأن كل أحد يمكنه أن يقول ما شاء إذا انفتح هذا الباب، وهو الطعن في الصحابة بأنهم لم يفهموا ما يقولون، وينقلون الباطل والضلال، كما هو مقتضى قول الخطابي.
مع أن قوله هذا خلاف ما اتفق عليه أئمة الإسلام من المحدثين والفقهاء، وأن مرسل الصحابي له حكم الاتصال؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون رواه عن صحابي، أو سمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وكذلك طعنه في شريك بن عبد الله غير مقبول، بل هو خلاف الحق.
(( قال أبو الفضل ابن طاهر: (( تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أن الآفات منه شيء لم يسبق إليه، فإن شريكاً قبله أئمة الجرح والتعديل ووثقوه، ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم، واحتجوا به، وروى عبد الله بن أحمد الدورقي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعباس الدوري، عن يحيى بن معين: لا بأس به )) (1).
وقال ابن عدي: (( مشهور من أهل المدينة، حدث عن مالك وغيره من الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة لا بأس به، إلا أن يروي عنه ضعيف )).
قال ابن طاهر: (( وحديثه هذا رواه عنه ثقة، وهو سليمان بن بلال )) (2).
ثم إن شريكاً لم ينفرد بهذا اللفظ كما تقدم.
وأما قول الخطابي: (( إن ذلك يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما )).
فجوابه أن كثيراً من النصوص في كتاب الله وسنة رسوله تقتضي ذلك، بل تدل عليه نصاً، وقد سبق في باب قوله تعالى: { وَكَانَ عَرشُهُ عَلَى المَاءِ } من ذكر بعض النصوص في ذلك، وبعض أقوال أئمة السلف ما فيه مقنع لمن يريد الحق.
''''''''''
(1) إذا قال يحيى بن معين : لا بأس به، فمعناه عنده : ثقة.
(2) الفتح )) (13/485).
وأما المكابر والضلال فلا حيلة فيه إلا طلب الهداية له من الله - تعالى -.
ثم مفهوم هذا القول من الخطابي أنه لا تمييز بين مكان الخالق والمخلوق ولا مسافة، ولا تحديد، وهذا لا يعدو أمرين لا ثالث لهما:
إما: أن يكون الرب - تعالى - حالاَّ في الخلق، ومداخلاً لهم، فهو في كل مكان، لا يختص به مكان دون آخر، حتى أجواف الحيوانات والناس والأمكنة الخبيثة، وهذا مذهب الحلولية الذين هم من أضل خلق الله، وأبعدهم عن معرفة الله والتمييز بينه وبين خلقه، وهذا غاية الكفر ومنتهاه.
الثاني: أنه لا مكان لله أصلاً، ومن ليس له مكان - بمعنى أنه ليس في جهة - فهو عدم لا وجود له، والعدم هو إله المعطلة والملاحدة.
ومعلوم ثبوت وصف الله - تعالى - بالقرب، والدنو، من بعض خلقه، كما قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (1).
وفي (( الصحيحين )) من حديث أبي موسى لما رفعوا أصواتهم بالتكبير قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعون سميع بصير قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته )) وقد تقدم، والنصوص في هذا كثيرة.
قال ابن تيمية: (( قرب الله - سبحانه - ودنوه من بعض مخلوقاته، لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش بل هو فوق العرش ويقرب من خلقه كيف شاء، كما قال ذلك من قاله من السلف.
وهذا كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة، وقال تعالى: { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (2) } .
''''''''''
(1) الآية 186 من سورة البقرة.
(2) الآية 52 من سورة مريم.
والنداء هو: رفع الصوت، والنجي هو القريب لمن يكلمه ويناجيه، وأكد ذلك بقوله: { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } ، والمنادي لموسى هو ربه - تعالى - وهو المناجي له أيضاً، ونداؤه ومناجاته قائمة به - تعالى - ليست مخلوقة منفصلة عنه، ووقعت مناداته ومناجاته لرسوله موسى في وقت واحد معين.
وفي (( الصحيحين )) من حديث أبي موسى، أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال: (( أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته )).
وفيهما: (( يقول الله - تعالى -: من تقرب إلىَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة )) (1).
(( والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته، وهو القول المعروف للسلف والأئمة، وهو قول الأشعري، وغيره من الكلابية، فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته، وكذلك يثبتون استواءه على العرش، فصار مستوياً عليه.
وأما دنوه وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر.
وأول من أنكر هذا في الإسلام الجهمية، ومن وافقهم )) (2).
وقد ثبت في (( الصحيحين )) من حديث ابن عمر قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( يدنو أحدكم من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ثم يقول: إني سترت عليك
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري الغنيمان
ليست هناك تعليقات